خطبة الجمعة 11 محرم 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : ثأر الله


ـ نقرأ في بعض الزيارت عبارة: (السلام عليك يا ثأر الله وابن ثأره).. فما المراد بهذا المصطلح؟
ـ لغوياً، الثأر هو الطلب بالدم، فعندما يُقتَل أحدُهم يقوم أولياؤه بالانتقام من القاتل.
ـ هذا الانتقام في الجاهلية كان يتحقق بصور عديدة، يُتجاوز فيها الحدود الإنسانية، حتى أنه كانت تقوم الحروب أحياناً ثأراً لمقتل شخص واحد، كما في حرب البسوس التي قامت بين قبيلتين وحلفائهما بعد قتل (كُليب التغلبي) على أثر قتله لناقة جاره! واستمرت الحرب بين 20 – 40 سنة!
ـ كما أن هذا الثأر لم يكن يخص الأولياء المباشرين للمقتول، بل تُعتبر كل القبيلة مسؤولة عن الثأر لدمه، وهي بأجمعها صاحبة الدم، لأنه عدوان يرتبط بكرامة القبيلة!
ـ وعندما جاء الإسلام قنّن مسألة الثأر بالإجراءات التالية:
1ـ وافق على اعتبار أن أثر الدم المراق ظُلماً لا يخص أولياء المقتول، ولكن ليس بالصورة السابقة، بل بمعنى أن الأثر السلبي لهذا العدوان يعم الجميع في أمنهم واستقرارهم وحياتهم: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)(المائدة:32).
2ـ اعتبر أن القصاص حقٌّ لولي الدم المباشر كالأب مثلاً، وليس للقبيلة أو كل العائلة. فإن لم يكن له ولي، فالحاكم الشرعي هو الولي.
3ـ القصاص يكون من القاتلِ نفسِه فقط، ولا يعم أحداً من أهله أو قبيلته أو غير ذلك. (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(الإسراء: من الآية33).
4ـ لا تمثيل في جثة المقتَص منه، وقد أوصى علي(ع) قبيل استشهاده: (يا حسن، أبصروا ضاربي، أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، فإن عشتُ فأنا أولى بحقي، وإن مت فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا به، فإنى سمعت رسول الله(ص) يقول: "إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور").
5ـ إفساح المجال أمام العفو، ولا تراجع عنه إن أُقر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(البقرة:178) ـ في ظل كل ما سبق، كيف نفهم هذا العنوان.. ثأر الله؟
ـ الاحتمال الأول أن يكون المراد من هذا العنوان أن الحسين(ع) هو الثائر لله. ـ فعندما خرج الإمام الحسين(ع) لم يخرج لغرض شخصي ولا لباطل، بل خرج نصرةً لله، وقد بيّن أسباب هذه النصرة في أكثر من موقع، ومنها ما جاء في كتابه لأشراف الكوفة، وهو في كربلاء: (فقد علمتم أن رسول الله(ص) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام أو تاركاً لعهد الله ومخالفاً لسنة رسول الله(ص) فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مَدخله، وقد علمتم أن هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله).
ـ فالإمام يؤكد على وجود تعدٍّ صارخ وكبير على دين الله وحرماته، وأنه إنما خرج ثأراً لدين الله الذي يُذبَح في كل يوم على يد هؤلاء القوم.
ـ ولذا أعلن في بداية حركته المبدأ الذي انطلق من أجله: (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الصلاح والنجاح في أمة جدي محمد(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي محمد (ص) وسيرة أبي علي بن أبي طالب).
ـ هذه النصرة هي الثأر لدين الله، استجابة لأمر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(محمد:7).
ـ الاحتمال الثاني أن يكون المراد من هذا العنوان أن الله هو وليُ دمِ الحسين، والمطالب بثأره والقصاص له، لا بالمعنى الشخصي، بل بمعنى أن الحسين(ع) لما ثار لله، واستشهد في هذا الطريق بكل إخلاص ومع كل التضحيات التي قدّمها، فإن الله هو المطالب بدمه.
ـ وبالتالي، فإن كل مَن يرتبط بالله ارتباطاً حقيقياً، ويريد أن ينصر الله، لابد وأن يجعل قضية الحسين قضيته، وأن يجعل ثورة الحسين نبراساً له، وأن يُحيي ذكرى الحسين وثورته، ما دام في الأرض ظلم، وما دام في الأرض فساد، وما دام النهجُ الأمويُّ الذي ثار الحسين في وجهه قائماً وفاعلاً على الأرض.
إن القصاص الحقيقي لدم الحسين ولدماء الشهداء بكربلاء، يتمثل في السعي لتحقيق الغايات التي من أجلها خرج الحسين ثائراً، في كل زمان ومكان، وليس بمجرد البكاء على الحسين، وإن كان هذا مطلوباً، وليس بمجرد زيارة الحسين، وإن كان هذا عظيماً.. والله عزوجل يقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج: من الآية40).
اما الذين ينصرون الطواغيت، والذين يوالون المستكبرين، والذين ينحنون للفاسدين، والذين ينفّذون أجنداتهم، فليسوا من الطالبين بدم الحسين والثائرين له، مهما بكوا، ومهما لطموا، ومها خرجوا في مواكب العزاء، فهم شركاء في الظلامات التي يتعذب فيها المظلومون، فالحسين إنما خرج ضد الظلم وضد الفساد وضد المستكبرين.
وأخيراً.. فإن نداء (يا لثارات الحسين) ليس شعاراً ضد من يختلفون معنا في الانتماء المذهبي، بل هو موجَّه ضد المستكبرين وأعداء الدين ممن تجمعهم مع الذين قتلوا الحسين وحدة الأهداف والمطامع.