خطبة الجمعة 4 محرم 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : ويأبى الله إلا أن يتم نوره


ـ أبت النهضة الحسينية إلا أن تبقى خالدة عبر القرون، على الرغم من كل محاولات محوها من الذاكرة، بل وتحولت إلى معين لا ينضب لثورات عديدة لاحقة.
ـ فقد تصور الأمويون بُعيد انتهاء واقعة كربلاء أنهم قد قضوا على حركة تمرد محدودة، وأنهم بذلك قد أدخلوا الرعب في قلوب الناس، فالذي يتجرأ على سيد شباب أهل الجنة وسبط النبي(ص) ومَن معه من أهل بيته وخيرة الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً، وبتلك الصورة الوحشية، فلا شك أنه لن يتورع عن ارتكاب ذلك في حق مَن سواهم. ولكنهم مكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
ـ وسرعان ما تبيّن لهم خطأ ظنهم ذاك، بل جاءت النتائج معكوسة تماماً، فقد أخرجت تلك الثورة الناسَ من حالة الغفلة التي كانوا يعيشونها، وجرّأتهم على الحكم الأموي.
ـ ولذا بادر الأمويون لاتخاذ عدة إجراءات من بينها:
1ـ البحث عن كبش فداء يقدّمونه على أنه المسؤول عن تلك الجريمة، دون يزيد. وما كان في البين أفضل من عبيدالله بن زياد.
ـ وما زال الذين يهوون الأمويين يكررون ذات المقولة التي يتبرأ منها التاريخ، حتى قال قائلهم: (أن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل)، ولكن ابنَ زياد بنفسه كذّب هذه التخرصات.
ـ في الكامل في التاريخ لابن الأثير أنه قال له مسافر اليشكري حين هرب من العراق: (أفلا أحدثُك بما كنت تحدِّثُ به نفسك؟ قال: هات. قلت: كنتَ تقول: ليتني كنتُ لم أقتل حُسيناً.. قال: أما قتلي الحسين فإنه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتلَه).
2ـ تشويه أهداف صاحب الثورة بتصويره على أنه طالب ملك وزعامة، متغافلين عن كل كلماته التي أطلقها في نهضته، وعن كل المواقف التي اتخذها حتى فضّل القتل في تلك الصحراء مع ذلك النفر القليل من أنصاره على أن يعيش ذليلاً.. وهل هذا حال طلاب الملك والزعامة؟!
3ـ اتهام الحسين(ع) وأنصارِه بالخروج على الشرعية الإسلامية، وقد قال القاضي ابن العربي في كتابه: (العواصم من القواصم) في تبرير قتل الحسين: (وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جدِّه المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول في الفتن. وأقوال في ذلك كثيرة: منها ما روى مسلم عن زياد بن علاقة عن عرفجة بن شريح قوله(ص): "إنه ستكون هنّات وهنّات، فمَن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان". فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله)!!
ـ إن مثَل هؤلاء الذين يتلون كتابَ الله، ويقرؤون التاريخ، ويعرفون الحقائق، فتميل قلوبهم مع الظالمين كمثل مَن ذكره الله في كتابه الحكيم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف:176) ـ وكما تعرَّض الحسين(ع) وتعرّضت نهضته لكل محاولات الإساءة والتشويه، تعرّض العلماء المصلحون والمفكرون المخلصون والقادة الثائرون من أبناء هذه الأمة لهجمة شرسة تطاولاً عليهم بهدف إسقاط
شخصياتهم، وتفريغِ حركتِهم الثورية أو الإصلاحية من محتواها، وسلبِها شرعيتَها.
ـ وأخيراً تجرّأ مَن تجرأ مِن المقتاتين من فُتاتِ موائد المخابرات الدولية على سيد النهضة الإسلامية المعاصرة في العراق وكبير مفكريها السيد محمد باقر الصدر المرجع الشهيد المقتول على يد يزيد العصر، وقد قال فيه الإمام الخميني: (كان السيد محمد باقر الصدر مفكراً إسلاميا فذاً، و كان مؤمَّلاً أن ينتفع الإسلام من وجوده بقدر أكبر، و أنا آمل أن يقرأ المسلمون ويدرسوا كتب هذا الرجل العظيم. لقد كان المرحوم الصدر شخصيةً علميةً، و مجاهداً مضحياً من مفاخر الحوزات العلمية ومراجع الدين والمفكرين المسلمين، فلا عجب لشهادة هؤلاء العظام الذين أمضوا عمراً في الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية).
مشيراً إلى الهدف من التصفية الجسدية للشهيد الصدر، بظن أنهم بذلك يقضون على فكره ونهضته وثورته، كما ظن الأمويون من قبل وهم يواجهون الحسين(ع).
ـ وما أحسنَ مقاربة تلميذه المرجع السيد محمود الهاشمي حيث قال: (مَن كان ليصدِّقَ أنّ عاشوراء ستتجدد بعد مرور أربعة عشر قرناً؟! وأن حسيناً آخر مِن سلالة الحسين(ع) العظيم سيحضر من جديد في محراب الشهادة، ويصنع ملحمة أخرى وكربلاء جديدة؟).
ـ لقد تكررت المحاولات أبان حياة هذا العلم الكبير والمجاهد الشهيد لتشويه صورته والطعن في شخصيته وإخلاصه، تارة باتهامه بالعمالة للاستكبار، وأخرى بالشخصانية، وثالثة باتباع الهوى وحب السلطة، حتى إذا مضى لربه شهيداً صابراً محتسباً، انبرى آخرون في محاولات يائسة لطمس تاريخه الفكري والفقهي والجهادي، حتى جاء هذا الزمن البائس بنكرةٍ ليكيل له الاتهام بالكفر!! إنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة:32). وكما بقي الحسين خالداً في إمامته وعِلمه وجهاده وشهادته.. سيبقى الزكيُّ من سلالته، السيدُ الشهيدُ الصدرُ خالداً في فقاهته وفكره وجهاده وشهادته.. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى سليل الحسين الشهيد الصدر ورحمة الله وبركاته.