الحرية عند الإمام علي 3 من 3 - الشيخ علي حسن

عن علي عليه السلام: (مَن زهِدَ في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربّه). اعتبر الإمام في بعض كلماته أن الزهد من أهم أسس تحقيق الحرية عند الإنسان.
تعريف بالزهد:
لغوياً الزهد يقابل الرغبة والميل والانجذاب، وبالتالي فالزهد بمعنى الإعراض. والإعراض نوعان:
1ـ طبعي: وهو عدم إقبال الطبع على شئ معين، كطبع المريض إذ لا يشتهي الطعام والشراب، وكطبع الإنسان السوي في عدم تقبل تناول الديدان مثلاً.
2ـ اختياري: فقد يرغب الإنسان بطبعه في فعل هذا الشئ، ولكنه يعرض عنه بعد تفكر، لأنه يراه مخالفاً لشخصيته ومروءته أو دينه أو سبباً في فقدان سعادة أو جالباً لشر دنيوي أو أخروي ..إلخ.
من الواضح أن مرتكز الكلام هو النوع الثاني من الإعراض. وقد عرّف الإمام عليه السلام كما في نهج البلاغة حدود الزهد وطريق تحقيقه في موردين:
الأول: في الخطبة 79 قال عليه السلام: (... أيها الناس، الزهادة قِصَر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم).
الثاني: في الحكمة 439 قال عليه السلام: (... الزهد بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: [لِكَيْ
لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ] ومَن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه).
الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة هو حالة روحية لها انعكاسات عملية، تجعل الإنسان خفيفاً في حركته، حراً من قيود كثيرة قد تمنعه من قول كلمة الحق، أو الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر.. كما تجعله حراً من قيود المعاصي، ولذائذ الدنيا إذا تحوّلت إلى أمور سلبية تعارض انطلاقة الإنسان نحو تحقيق عبوديته لله.
بين الزهد والرهبنة:
وقد يطرح البعض سؤالاً مفاده: أي فرق بين الزهد وبين الرهبنة التي ذمها الإسلام باعتبارها بدعة وقال في شأنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رهبانية في الإسلام). ونحن نشهد أن تعاليم الإسلام قد شملت جميع جوانب الحياة، وهي تقوم على أساس كرامة الحياة الإنسانية، لا الإعراض عنها. بل لماذا يزهد الإنسان في الحياة؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمر عليها مرور الكرام؟ ألا يُحتمل أن الزهد من البدع التي دخلت الإسلام كما دخلت الرهبنة للمسيحية؟
والجواب أن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر. فالرهبنة: انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة، أما الزهد الإسلامي فيقوم في وسط الحياة ومن واقع تحمل المسؤولية الفردية والاجتماعية.
من حرّم زينة الله؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإسلام لم يمنع من التمتع بنعم الحياة، وقد شكا العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد، فقال له الإمام علي عليه السلام: (وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا! قال: عليّ به. فلما جاء قال له: يا عُديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! فقال عليه السلام: ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس).
وفي (أصول الكافي) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه).
لا لتعلق القلب بالدنيا:
نعم الإسلام يدفع إلى عدم التعلق القلبي بهذه المتع، وعدم جعلها أولوية في الحياة، وإلى اختيار حياة بسيطة غير متكلَّف فيها. مع الأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1ـ أن الاستفادة المادية من المسخَّرات في هذه الحياة والتمتع بنعيمها الفاني ليس هو السبيل الوحيد لتأمين سعادة الإنسان، بل لابدّ من أمور معنوية تحقق السعادة في الدنيا أو الآخرة.
2ـ إن مصير سعادة الفرد لا ينفك عن مصير أمته، وبالتالي فهو يتحمل المسؤولية تجاه أسرته وتجاه جيرانه وتجاه أبناء وطنه ودينه والإنسانية (من بات ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).
3ـ انغماس الإنسان في اللذائذ المادية لا يدع مجالاً لتقوية الروح.
وإذا التفتنا إلى هذه الأمور اتضح لنا كيف أن الإسلام حين ينفي الرهبنة يضع الزهد في صميم الحياة وقلب المجتمع. وهذا ما تحقق في شخصية أمير المؤمنين، وقد قال الشريف الرضي في مقدمة النهج: (ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكّر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممن عظم قدره، ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت) قبع = انزوى واعتزل (أو انقطع إلى سفح الجبل لا يَسمع إلا حسه، ولايَرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه) أصلت سيفه = جرّده وأخرجه من غمده (فيقطّ الرقاب) يقط الرقاب = يقطعها عرضاً، فإن كان يقطعها طولاً قيل: يقدّ (ويجدّل الأبطال) يجدل الأبطال = يلقيهم على وجه الأرض (ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً) ينطف = يقطر ويسيل ـ المهج جمع مهجة = دم القلب و الروح (وهو مع تلك الحال، زاهد الزهاد، وبدل الأبدال) الأبدال جمع بدل أو بديل = تعبير ورد في بعض الأخبار يراد به قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم، إذا مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر (وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد، وألّف بين الأشتات، وكثيراً ما أذاكر الإخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها، والفكرة فيها).
آثار الزهد:
وللزهد آثار عديدة على مستوى الرقي الإنساني، فالإيثار ثمرة من ثمار الزهد، كما في مشهد (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(الإنسان:8) فهنا إعراض عن تناول هذا الطعام، ولكنه ليس بالإعراض الطبعي فالآية تقول: (عَلَى حُبِّهِ) لأنهم كانوا صائمين جائعين، ولكنه إعراض ناشئ عن تصميم، وهذا التصميم ناشئ من كمالات نفسية، منها الزهد.
ومن آثاره القناعة، كقوله: (أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ; أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. فَوَالله مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، وَلاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إلاَّ كَقُوتِ أَتَان دَبِرَة، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَهْوَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ) صمغ شجرة البلوط مُر.
ومن آثاره الراحة والطمأنينة النفسية، ولذا قال عليه السلام: (السَّالِمُ مِنْكِ لاَ يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ، وَالدُّنْيَا عنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ انْسِلاَخُهُ). كما لم يكن علي عليه السلام يبالي بالموت، وهو القائل: (واللهِ لا أُبَالي، أَوَقَعَ الموتُ عليَّ أمْ وَقَعْتُ عَليْه).
ومن آثاره المهمة جداً الحرية، لاحظ هذه الصورة القرآنية لمن عشق المادة وأخرج الزهد من قلبه، كيف قيّد نفسَه بالعالم المادي الفاني: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:175-176].
أما الزاهد فبماذا يبالي؟ ولذا قال علي عليه السلام: (إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا، فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ... اُعْزُبِي عَنِّي! فَوَاللهِ لاَ أُذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، وَلاَ أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي). وقال عليه السلام في بعض كلماته القصار: (الطَّمعُ رقٌّ مُؤبَّد) والطمع من المتضادات مع الزهد كما ذكرنا سابقاً. ويصف زهد عيسى ابن مريم فيقول: (.. ولا طَمعَ يُذلُّه).