خطبة الجمعة 20 ذوالحجة 1434 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : دلالات حديث الغدير


ـ بتصوري أن من الخطأ تناول ما جرى في الثامن عشر من ذي الحجة في العام الهجري العاشر من خلال المقطع الأخير من النص والمقتصر على قول النبي(ص): (من كنت مولاه...إلخ النص).
ـ لابد أن نلاحظ أن النبي(ص) في بداية كلامه قدّم العترة من أهل بيته على أنهم يمثّلون المرجعية الشاملة لكل مجالات المعرفة الدينية بما في ذلك فهم القرآن وتفاصيل العقيدة والأحكام الشرعية والأخلاق وغيرها من المجالات، لا بالمعنى الضيق للمرجعية الدينية المنحصرة بالفقه فقط.
ـ قدّمهم النبي(ص) بهذه الصورة من خلال حديث الثقلين.. وأهمية ذلك تعود إلى أن المسلمين كانوا يعتمدون على النبي في تلقي وحي القرآن وفهمه وتطبيقه، كما كانوا يعتمدون عليه في ما هو خارج نطاق القرآن وجاء بصورة تعاليم إلهية أو سُـنّةٍ نبويّة. وبوفاته كانوا سيواجهون مشكلة حتمية في هذين الإطارين، سواء مَن عاصر منهم النبي(ص)، أو مَن دخل الإسلام أو وُلد بعد عصره.
ـ والنص التالي يوضح تلك المعضلة، فعن علي(ع): (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمداً فليتبوء مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده. وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الايمان، متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذِب على رسول الله (ص) متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كذاب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله(ص) ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه، وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزوجل: [وإذا رأيتَهم تُعجبُك أجسامُهم وإن يقولوا تسمعْ لقولِهم] ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحمله على وجهه و وَهِم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله(ص)، فلو علم المسلمون أنه وَهْمٌ لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهْم لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله(ص) شيئاً أمَر به ثم نَهى عنه وهو لا يَعلم، أو سمعَه ينهى عن شئ ثم أمَر به وهو لا يَعلم، فحفِظ منسوخه ولم يحفَظ الناسخ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه. وآخر رابع لم يكذب على رسول الله(ص) مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله(ص)، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلِم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ... وليس كل أصحاب رسول الله(ص) كان يسأله عن الشئ فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الاعرابي والطاري فيسأل رسولَ الله(ص) حتى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله(ص) كلَّ يومٍ دَخلةً وكلَّ ليلةٍ دخلةً فيخلّيني فيها، أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله(ص) أنه لم يصنع ذلك بأحدٍ من الناس غيري..).
ـ وما بأيدينا من تراث حديثي في مجال التفسير والعقيدة والأحكام والأخلاق والتاريخ وغيرها يؤكد ذلك بوضوح. وما ظهور المذاهب في العقيدة وفي الفقه بالعشرات إلا دليل آخر على صحة ما نقول.
ـ ثم بعد ذلك تدرّج النبي(ص) في بيان أمر الولاية والقيادة الميدانية، كما يلي:
ـ في المقام الأول: تحديد مجالات و سعة هذه الولاية حيث قال: (ألستم تعلمون أني أوْلى بكل مؤمن من نفسه؟) وكأنه يذكّر المسلمين بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(الأحزاب: من الآية) وفي تفسيرها روى الطبري: (ما قضى فيهم من أمرٍ جاز) وفي تفسير النسفي: (أي أحقُّ بهم في كل شئ من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذَ عليهم من حكمها).
ـ وكأنه(ص) أيضاً يذكّر المسلمين بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36).
ـ في المقام الثاني: بيان أنّ كل هذه الشمولية في السيادة والولاية هي منقولة بتمامها لمن سيقدّمه النبي للأمة ويعرّفه لها حيث قال: (الله مولاي وأنا مولاكم، فمن كنت مولاه).
ـ في المقام الثالث: تحديد من يمثّل رأس هذه القيادة الميدانية، أي السلطة التنفيذية والقضائية، وذلك من خلال الإمساك بيد علي ورفعها والتصريح باسمه حيث قال: (فهذا علي مولاه).
ـ وأراد النبي(ص) أن يدور الناس مع علي(ع) كما دعا للحق أن يدور معه حيثما دار، ولكن دارت الأيام، وأدار أناسٌ ظهورَهم لعلي، الذي ما كان يرى في الحكم وفي الموقع القيادي المتقدم غايةً له، حتى لو شُرِّف بها من قبل الله، بل بقي الحكم بالنسبة إليه وسيلة، وهو القائل لابن عباس: (أترى إلى هذه النعل، إنها أعظمُ من إمرتِكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
ـ هكذا كان علي(ع)، وهكذا كن أنت أيها الموالي، فيما لو عُرضت عليك الدنيا في موقع متقدِّم، كمسؤول كبير في سلطة تنفيذية تَأمر فتُطاع، أو كشخصية محبوبة يلتف حولَها الناس في سلطة تشريعية، أو كقياديٍّ لكيان سياسيٍّ تُحرِّك القواعد والجماهير المنسجمة مع رؤاك الحزبية.. فالولاء لعلي ليس شعاراً يُرفَع، ولا دمعةً تُذرَف، ولا لطمةً على صدر، وإنما يتجلى الولاء الحقيقي لعلي(ع) في المواقف التي تَظهر فيها معادن الرجال. وقد قال جويرية بن مسهر: (اشتددت خلف أمير المؤمنين(ع) فقال لي: يا جويرية، إنه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفَهم). اللهم لك الحمد أن جعلتنا من المتمسكين بالإسلام في خط ولاية عليّ والأئمة من أهل بيته(ع). الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة.