حرب الإشاعات - الشيخ علي حسن

قال عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6]. وفي تفسير الطبري: (وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم مصَدقاً إلى بني المصطلق فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد، فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره الخبر، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون، فكان نبي الله يقول: التبيُّن من الله، والعجلة من الشيطان).
أصل مهم:
هذه الآية تؤسس لأصل مهم في التعامل مع الخبر، وهو ضرورة التثبت عندما يأتيك الخبر من شخص غير موثوق، لا يتحرج عن الكذب.. بل إن الخبر قد يصل إليك أحياناً ممن تثق به، ولكنك تحتمل أنه لم يتثبَّت من صحة الخبر ودقّته، لأن المصدر الأول لربما كان فاسقاً متعمداً للكذب وإحداث الفتنة، أو متوهماً غافلاً، أو مصاباً بخلل نفسي يصدّق به أوهامه.. وهذا يستدعي منك التثبت حتماً خوفاً من ترتيب آثار قد تندم عليها.
واتسب فتنة:
قبل أيام قلائل أثيرت على (الواتسب) قضية انتشرت بصورة سريعة بما حملتها من آثار فتنوية، مفادها أن أحد المختصين بالشأن القرآني قد فاز بمركز متقدم في مسابقة دولية في مجال حفظ القرآن الكريم، وأنه تم تجاهله إعلامياً من قبل وسائل الإعلام والجهات المعنية بسبب انتمائه المذهبي. والرسالة كانت مليئة بالشحن الطائفي، وفي ضمنها يقول كاتبها: (أتدرون لماذا؟ لأن الفائز هو الحاج فلان، كويتي صحيح ولكن مصيبته أنه شيعي رافضي صفوي، وسلم لي على الوسطية والمسافة الواحدة والوحدة الوطنية إلخ ... إلخ... إلخ).
ولكن بمجرد أن بلغ الخبر الشخص المعني، بادر إلى إرسال ـ ومن موقع إحساسه بالمسؤولية الدينية والوطنية ـ رسالة عبر الواتسب يؤكد فيها كذب ما تم تداوله، وضمّنها عدة نقاط جديرة بالاهتمام.. وله الشكر على مبادرته وإحساسه بالمسؤولية.
تحذير نبوي:
في الكافي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح فيقول: أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً، فيقال له: خرجَت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرْجُ الحرام، وعزتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئاً من جوارحك).
ولا يخفى أن ما يتم تداوله ولو كتابياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي يدخل في ما ذُكر في ترتب العقاب الشديد.. والأصل فيما يُبث من خلالها هو التثبّت، وذلك لقوة احتمال الكذب!
وفيه أيضاً أنه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني. فقال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله، أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول الله أوصني) وكأن الرجل لم يقتنع بأن هذه الإجابة يمكنها أن تُشبع رغبته في معرفة ما يحقق له الخير فأخذ يكرر نفس السؤال، ولذا قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخيراً: (احفظ لسانك، ويْحك! وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائُد ألسنتهم).
جهات تريد الفتنة:
والسؤال المهم هنا: من يقف وراء مثل هذه الرسالة التي لا تعمل إلا على المزيد من الشحن الطائفي في أجواء ملتهبة أصلاً؟ ومن يقف وراء أمثال هذه الرسالة من مقاطع فيديو يتم تسجيلها وبثها؟ من ذا الذي يسجِّلها؟ ومن يمتلك تقنية التسجيل عبر الفضائيات، والتي هي في الواقع ليست متداولة لكل أحد؟ ومن هو المتفرغ لرصد البرامج واللقاءات والخطابات إلخ... ويبقى جاهزاً للتسجيل والمونتاج والرفع على اليوتيوب ثم النشر من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي؟ وغير ذلك من أسئلة تثير علامة استفهام كبيرة على ما يجري.
أنا شخصياً مقتنع بأن هناك أجهزة تعمل بالأجرة لصالح جهات مخابراتية دولية بهدف تدمير الواقع الإسلامي كله، السني منه والشيعي، ومن ضمن أساليبها: بث الأكاذيب وتلفيقها حول علماء ورموز وأحزاب وفئات المذاهب المختلفة، وهي تدرك تمام الإداراك أن الأرضية خصبة لقبول مثل ذلك، بل والزيادة عليه من قبل كل طرف تجاه الآخر.
فإلى متى سنبقى كالدمى بأيديهم يحركوننا كيفما شاؤوا مستغلين بذلك ابتعادنا عن القيم التي أراد الإسلام ترسيخها فينا لنعيش حياة أفضل، وذلك من قبيل الأصل الوارد في مضمون الآية بضرورة التثبت، وأن مخالفة ذلك قد يؤدي إلى كوارث عاقبتها الندم في الدارين؟
في مهب الريح:
لقد أسقطت الفتن التي أنتجتها كلماتنا الكثير من عناوين القوة فينا، وجعلتنا في مهب رياح الآخرين، وقد قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال:46]، وهذه هي النتيجة الحتمية لكل الكلمات اللامسؤولة التي تنطلق بالوسائل التقليدية أو الحديثة لتخرق وتمزّق كل أواصر الألفة والتعايش السلمي التي ينبغي لها أن تجمع الناس، لتفسح المجال لخليفة الله على أرضه أن يعمّرها.. وهل يتحقق الإعمار والتنمية والتطوير في أجواء ملؤها الفتن والأحقاد والتشاحن؟ نريد الكلمات الواعية الموحدة، المقرِّبة للقلوب، الموئدة للفتن، ولتصمت كل الأصوات المفرِّقة والموترة، الأصوات التي تستفز وتطلق حقداً وبغضاء.