خطبة الجمعة 22 ذوالقعدة 1434 هـ ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : أنسنة الدين


ـ يدور في الأوساط الثقافية والفكرية حديث عن (أنسنة الدين).. فماذا يراد من ذلك؟ وما الموقف منه؟
ـ لأنسنة الدين أكثر من معنى وأكثر من بُعد، ومن ذلك أن نعتبر النص الشرعي ـ مهما ارتفعت قيمته التوثيقية ـ بمثابة أي عمل إنساني، خاضع للنقد والتعديل، تماماً كما نناقش أي عمل أدبي.
ـ ومن الواضح أن الإنسان الملتزم بسماوية القرآن الكريم لن يقبل الأنسنة بهذا المعنى، لتعارضها مع معتقده حول مصدر الوحي، كما أنه لن تبقى هناك مرجعية للنص، ولن تبقى هناك ثوابت، ولا عقائد.
ـ نعم لو كان الحديث عن السنة، فسيكون الأمر مختلفاً، فما كان سنةً حقيقةً، كما لو سمع الإنسان الكلام من النبي(ص) مباشرة ـ على الأقل في الدائرة الدينية ـ فسيرفض هذا المعنى، أما ما وصل إلينا عنه(ص) فهو قابل للنقد لاحتمال أنه من المدسوس عليه، أو المحرّف.
ـ ومن معاني (أنسنة الدين) الاهتمام بالأبعاد الإنسانية في تعاليم الدين وتشريعاته، والتركيز عليها وتجليتها للناس بهدف تحبيب الدين إلى قلوب الناس، ورد الشبهات المثارة ضده، كتلك التي تقدِّم الإسلام بصورة وحشية وبعيدة عن الإنسانية.
ـ وقد أكد القرآن على حيوية هذا البعد في الإسلام: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[الأعراف:157-158].
ـ كما أن مراجعة تفاصيل التعاليم والتشريعات والقضايا الأخلاقية تقدّم الأمثلة والبراهين العملية الكثيرة.
ـ ويبدو أن إطلاق (أنسنة الدين) على هذا الأمر غير دقيق، فهو في حقيقة الأمر أنسنة للخطاب الديني، أي أن نعيد صياغة طريقتنا في تقديم الدين للناس، من حيث المحتوى الذي نركز عليه، ومن حيث الأسلوب الذي نكيّفه مع العصر، ومن حيث الدوائر التي لم نفلح أو لم نسعَ لإيصال كلمة الإسلام إليها.
ـ وقد ذكرتُ مسبقاً أن الإسلام لم ينتشر في بعض أصقاع العالم إلا من خلال المفاهيم والقيم الإنسانية الراقية التي قدّمها نظرياً من خلال القرآن، وعملياً من خلال السلوك القيمي الراقي للإنسان المسلم، مقارنةً
ببعض الشعوب المتخلفة التي كان يحتك بها في أسفاره، مما كان يدفعهم إلى الدخول في الإسلام بلا تردد.
ـ ومن المؤسف أننا اليوم فشلنا على المستويين النظري والعملي، فلم نفلح في أن نقدم خطاباً قيمياً جذاباً بما يتوافق مع الواقع المتغير والمتطور، كما لم نفلح في تقديم النموذج القيمي الراقي من خلال سلوكياتنا المليئة بالمخالفات القيمية والتي لا تشجّع الآخرين على الانجذاب إلى الإسلام، وقد ارتقوا هم على مستوى
القيم في عدة جوانب، من قبيل الحفاظ على النظام العام واحترام القوانين والإنتاجية وتقدير الوقت والإتقان.
ـ ولا أتصور أن أحداً يعترض على أنسنة الدين بهذا المعنى، وهو منسجم تماماً مع قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125].
ـ وهناك مفهوم ثالث لأنسنة الدين، ويعني إطلاق تعاليمه لخدمة الإنسانية جمعاء انسجاماً مع قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107]. ولأنّ الأديان السماوية عموماً وجدت لخدمة المسيرة البشرية.
ـ ولكن يا تُرى هل يمكن لنا تحقيق ذلك وفق بعض المعطيات الفقهية والأخلاقية التي نقدّمها للناس على أنها شريعة الإسلام وآدابه؟ ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك:
1ـ عندما نجعل غير المسلم في خانة الكلاب والخنازير في النص الفقهي من حيث النجاسة.
2ـ عندما لا نحترم ممتلكاته ونعتبر أن ما بيده من مال مباحٌ لك ونستطيع أن نسلبه إياه متى ما سمحت لنا الفرصة، وإن لم يكن حربياً.
3ـ وعندما ننظر إليه نظرة احتقار لأنه لم يهتدِ إلى ما وُلدنا نحن عليه.
4ـ وعندما نعتبر أن حاجة المرأة من الزواج تقتصر على الإنفاق، فما دام الزوج ينفق عليها فلا حق لها في الطلاق، ولو لم يعاشرها معاشرة الأزواج، ولو آذاها ولم يعاملها بالمعروف.
ـ معالجة هذا الأمر يستلزم بدايةً أن ننهي الجدل حول النقطة المحورية: هل جاء الدين لخدمة الإنسان، أم وُجد الإنسان لخدمة الدين؟
ـ ويبدو أننا ما دمنا متمسكين بالقول الثاني فلن يمكننا تحقيق هذا المفهوم للأنسنة، وقد أعجبتني كلمة في كتاب: (مقالات في فهم الدين) للشيخ حميد المبارك حيث قال: (الطريقة السائدة تسير سيراً معكوساً في مقام فهم الدين، إذ تبدأ بقراءة النص تجريدياً وتنتهي بفرضها على الإنسان، مع أن الصحيح في نظري هو البدء بفهم الإنسان أولاً، ثم الانطلاق من ذلك إلى دراسة النص على قاعدة أن الدين لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل الدين، فلما كان الدين معدّاً لمصالح الإنسان، وجب أن يكون على مقاسه الذي يجب أن نعرفه في مرحلة سابقة).
ـ ولذا تجد أن القرآن يعتمد طريقة التعليل بالمصالح والمفاسد في التحليل والتحريم كما في الخمر والميسر (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر)[المائدة:91].
ـ وعندما تحدث عن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير علل ذلك بأنها (رجس) أي شئ قذر مضر.
ـ بل عندما تحدث عن الالتزام الديني مثّله باللباس الأنسب للإنسان (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26] وهل يمكن أن تعرف اللباس المناسب قبل أن تعرف خصوصيات مَن يرتديه وطبيعة حاجاته؟
ـ بتصوري أن الدراسات الفقهية والأخلاقية لو انطلقت من خلال هذا المنهج سيمكنها أن تحقق نقلة نوعية في ظل النص الشرعي، لا بالتخلي عنه، ولا بتجاوز الدليل على شئ متى ما قام، بل بمعنى تكوين رؤية ومنهجية تساعد في إعادة قراءة الأدلة ومعالجة التعارض بينها وغير ذلك بما يتوافق مع العنوان العام الذي استخلصناه، وهو أن الله سبحانه جعل الشريعة في خدمة الإنسان.