الإمام الرضا ورسالة التوحيد - الشيخ حسين المصطفى ـ القطيف

عندما بدأ الإمام الرضا عليه السلام رحلته إلى خراسان، توقف في مرو، فاجتمع إليه الرواة الذين كان كلُ همهم أن يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله من خلال أئمة أهل البيت عليهم السلام ، فقالوا: حدِّثنا يا بن رسول الله. وأطلّ عليهم ـ وكان في المحمل ـ وبدأ عليه السلام بسلسلته الذهبية المباركة فقال: (حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وآله قال: حدّثني جبرائيل عن الله وهو يقول: (كَلِمَةُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ حِصْنِي، ومَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي)[الأحاديث القدسية المشتركة: ص 19-21].
قال أبو نُعيمٍ: (هَذَا حَدِيثٌ ثابتٌ مشهورٌ ...، وكانَ بعضُ سَلَفِنَا من المُحدِّثينَ إذا رَوَى هَذَا الإسنادَ قالَ: لَوْ قُرِىءَ هَذَا الإسنادُ على مجنونٍ لأفَاقَ)[حلية الأولياء: ج 3 ص 191].
لقد أراد الرضا عليه السلام أن يؤكد التوحيد لله في عقول المسلمين، الذين زحف الشرك والغلوّ إلى بعض عقولهم بطريقة وبأخرى من حيث لا يشعرون، وليؤكِّد لهم ما قاله الله تعالى في حديثه القدسي لرسوله: من أنّ الحصن الذي يأوي إليه الناس فيحصلون على رضواني، ويأمنون من عذابي هو (التوحيد).
ويقول محمَّد بن زيد: (جِئْتُ إِلَى الرِّضَا عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَأَمْلَى عَلَيَّ: الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ الْأَشْيَاءِ إِنْشَاءً، وَمُبْتَدِعِهَا ابْتِدَاعاً؛ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ فَيَبْطُلَ الِاخْتِرَاعُ، وَلَا لِعِلَّةٍ فَلَا يَصِحَّ الِابْتِدَاعُ، خَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، مُتَوَحِّداً بِذَلِكَ لِإِظْهَارِ حِكْمَتِهِ، وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، لَا تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ، وَلَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ، عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الْأَبْصَارُ، وَضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ، احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ، وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ، وَنُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)[الكافي: ج 1 ص 105].
وأراد عليه السلام أن يُسجّل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه. وهو أن لا يكون هناك شرك في العقيدة، ولا في العبادة، ولا في الطاعة، ولا في أيّ إحساس وشعور، وكل مَن هو غير الله، حتى من رسله، فهم (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، عظمتهم عليهم السلام في أنهم ارتفعوا إلى مستوى العبودية الخالصة حتى لم يروا إلا الله، وذابوا فيه تعالى. أي أنهم وصلوا إلى مقام التوحيد العملي، وهو التوحيد الذي يعبر عنه العلماء بـ (التوحيد في العبادة) وغايته إيصال الإنسان إلى الكمال. أي أنّ الإنسان يعتبر موحِّداً ما دام يمر في مرحلة التصور، غير أنه لا يعتبر موحداً حقيقياً إلا إذا كان موحِّداً في مرحلة الحياة ومرحلة الوجود.
وهذا ما رمت إليه السيدة الزهراء عليه السلام في خطبتها فقالت: (وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها). وتبين الزهراء عليه السلام في شهادتها هذه، اعتقادها بالتوحيد النظري، ولكنها ومن أجل أن توضح بأنّ التوحيد النظري غير منفصل عن التوحيد العملي في الإسلام، تقول: (كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِْخْلاصَ تَأْويلَها). والتأويل يعني المآل بحسب التعبير القرآني. والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.
بعد أن انتهى الإمام الرضا عليه السلام من حديثه أطلَّ مرة ثانية من المحمل، وقال لهم: (بِشُرُوطِهَا وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا) لأنّ الإمامة كانت تتجسّد فيه آنذاك.
وهذا درس نتعلّمه، أن نبقى مع توحيد الله في خط الرسالة، وأن نبقى مع خط الرسالة في خط الإمامة.