خطبة الجمعة 8 ذوالقعدة 1434 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية : مكانة الرضا (ع) وحكمته


ـ نستقبل في هذه الأيام ذكرى مولد ثامن الحجج الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، وبهذه المناسبة لدي هنا رسالتان، الأولى موجهة إلى الخارج، والثانية موجهة إلى الداخل. أما الخارجية فبلحاظ ما يلي:
ـ روى ابن حجر في (تهذيب التهذيب) عن الحاكم النيسابوري قال: (سمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس، قال فرأيت من تعظيمه يعنى ابن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا).
ـ وقال ابن حبان في ترجمة الإمام الرضا(ع) من كتاب الثقاة (وقبره بـ سناباذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد، قد زرته مراراً كثيرة، وما حلّت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه، ودعوت الله إزالتها عني إلا استجيب لي وزالت عني تلك الشدة، وهذا شيء جربته مراراً فوجدته كذلك، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين).
ـ أما ابن خزيمة، فهو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الشافعي (ت311هـ) الحافظ الحجة الفقيه، الملقب بشيخ الإسلام، وإمام الأئمة. وصاحب كتاب صحيح ابن خزيمة، سمع من البخاري ومسلم بن الحجاج وغيرهما، وروى عنه جماعة من مشايخه منهم البخاري ومسلم، عني بالحديث والفقه، حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان. صنف ما يزيد على مائة وأربعين كتاباً.
ـ وأما ابن حبان، فهو شيخ خراسان محمد بن حبان الملقب بالإمام الفاضل والمتقِن المحقق قالوا عنه: كان من فقهاء الناس وحفاظ الآثار المشهورين في الأمصار والأقطار عالما بالطب والنجوم وفنون العلوم وكان من الحفاظ الأثبات. توفي 354هـ.
ـ حقيقة الإنسان يتحيّر من أمر هذا الزمان! فابن خزيمة كان سلفي العقيدة، وكتابه (التوحيد وإثبات صفات الرب عزوجل) مطبوع ومشهور، وهو يعتقد بالتجسيم وما شاكل، ولكن مع هذا يصدر عنه ما يصدر من زيارة وتبجيل لمرقد الرضا(ع)، ثم تضرع وتواضع عنده!
ـ ثم يأتي البعض ليتخذ من قضية زيارة القبور عذراًَ لتكفير المسلمين وقتلهم بكل وحشية. نعم، أنا شخصياً لا أنفي وجود ممارسات خاطئة من قبل الزائرين، وقد تحدث المراجع والعلماء عن ذلك في خطاباتهم وفتاواهم، ولكن هل هذا يبرر ذلك السلوك؟
ـ هذه دعوة إلى الذين يعيشون عقدة الصراع مع كل شئ، أن يعودوا إلى تاريخهم، وليبحثوا في هذا التاريخ، لا عن النقاط التي تستفزّهم لمزيد من العداء، بل عن النقاط التي تقدّم لهم العذر لكي يخففوا من غلواء نيران التعصب ضد الآخر المختلف معهم، تعصباً يصل إلى درجةٍ يعرّضون فيها أنفسهم إلى ما قال عنه الله عزوجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)[النساء:93].
ـ أما الرسالة االموجهة إلى الداخل، فبلحاظ الحديث التالي:
روى الشيخ الصدوق حديثاً معتبر السند عن إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا(ع): إنّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين(ع) وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفَنُدين بها؟ فقال: يابن أَبِي مَحْمُودٍ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلٍ فَقَدْ عَبَدَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ. ثُمَّ قَالَ الرِّضَا(ع): يابن أَبِي مَحْمُودٍ: إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا: التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا: التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا. فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهم إِلَى الْقَوْلِ بِرُبوبِيَتِنَا، وَإِذا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعتقدوه فِينَا، وَإِذا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجِلَ: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾. يابن أَبِي مَحْمُودٍ، إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالًا فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا فَإِنَّ طَرِيقَتَنَا هِيَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهِيَ الْمَحَجَّةُ الْبَيْضَاءُ وَهِيَ الْجَادَّةُ الْوُسْطَى، فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ، إِنَّ أَدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ نَوَاةٌ ثُمَّ يَدِينُ بِذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، يابن أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ).
ـ ولابد من التنبيه هنا أن مثل هذه الأحاديث وجدت طريقها إلى كتبنا، ولطالما رويت مثل تلك الأحاديث في كتبنا عن مصادر أخرى.
ـ ومن ادعى التشيع لآل بيت النبي صلوات الله عليهم فليأخذ بأبعاد هذا الحديث، في مجال الغلو، وفي مجال التقصير، وفي مجال ذكر المثالب، لأن مشكلة البعض هي أن تعصبهم أو حماسهم لا ينطلق في حقيقته من إخلاصٍ لما يتبناه، بقدر ما هو تعصب للذات وانسياق وراء الأهواء الشخصية، فمشكلته أن الآخرين قد اختلفوا معه، وليست مشكلته أن الآخرين قد اختلفوا مع الحق!
ـ إن من أشد الوسائل مكراً التي لجأ إليها معادو مدرسة أهل البيت(ع) في محاربتهم هي الدس عليهم في تلك العناوين الثلاثة، حتى ملأت الكتب وترددت على الألسن، وأُخذت ذريعة لارتكاب الجرائم في حقهم عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، ثم تحوّلت إلى أداة للاحتراب الداخلي بين أتباع المذهب الواحد، في الوقت الذي ينبغي فيه إعطاء العذر لمن يختلف معك، فلعله مقتنع بينه وبين الله أن ما تقول به هو من ذلك المدسوس الذي حذّر منه الإمام الرضا(ع)، وأنه يتقرب بذلك إلى الله، ويبقى لكلا الطرفين الحق في البحث العلمي والحوار في ما اختلفا فيه وبالتي هي أحسن..
أيها المسلمون، رفقاً ببعضنا البعض، فقد سئمنا سفك الدماء وتجاوز الحرمات ولغة التصعيد ومنطق التخوين، ولننظر ببصيرة إلى ما يحوكه الآخرون ضدنا دون أن يفرّقوا بين شيعي وسني وسلفي وغيرهم، وقد صرح رئيس الوزراء الصهيوني قبل أسبوع حول الأوضاع الهادئة التي يعيشها الكيان الصهيوني قائلاً: (هذا الأمر ليس بديهياً عندما تهيج المنطقة من حولنا، إننا نحافظ على إسرائيل، وهي جزيرة من الطمأنينة والهدوء والأمان، وهذا ينبع من السياسة المتعقلة والمسؤولة التي ننتهجها، ومن النشاطات العملانية والحازمة جداً التي تمارسها جميع الأجهزة الأمنية ويعرف الجمهور جزءاً قليلاً جداً عنها)، نعم لقد نجحوا بجهودهم المخابراتية في أن يثيروا كل أنواع الصراع عندنا، وبإرادتنا واختيارنا، ليهنئوا هم في جزيرتهم! فهل من مدّكر؟