تخاريف ـ 4 ـ الشيخ علي حسن

تدل الشواهد التاريخية على ان الانسان قد عرف منذ القدم الأساطير والحكايات وأحبّها، ويعود ذلك لتفرّده بين كائنات العالم المشهود بامتلاك القدرة على التخيل، فتمكن من ابتكار الأساطير واختلاق الحكايات حول عالمي الغيب والشهادة، بل والمزج بينهما.
واذ كان العرب غير مستثنين من ذلك، فقد عمل القرآن الكريم على استثمار حب العربي للقصص ومعرفة التاريخ وأحوال الأمم الماضية، ولكنه قدّمها في اطار حضاري يتناغم مع الأهداف العامة من نزول الآيات والسور، وجعلها أداة للتوجيه والتربية بعد ان كانت مجرد وسيلة للتسلية واللهو: {فاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، {وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111] مع التأكيد على صحة هذه القصص وتجريدها من الخرافة والخيال والعبثية، فمصدرها هو الله الحق العليم السميع البصير.

عودة القصة الخرافية

بعد ان وجّه الاسلامُ الانسانَ العربي المسلم الى القصة في اطارها الحقيقي والهادف، عادت الخرافات والأساطير لتغزو (السوق الثقافية) عند المسلمين من خلال قنوات عديدة، أهمها:

-1 الاسرائيليات:
قال ابن خلدون: (العرب لم يكونوا أهل كتاب، ولا علم، وانّما غلبت عليهم البداوة والأميّة، واذا تشّوقوا الى معرفة شيء مما تتشوق اليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات، وبدءِ الخليقة وأسرار الوجود، فانّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصاري، وأهل التوراة هم بين العرب يومئذٍ باديةٌ مثلهم، ولا يعرفون من ذلك الاّ ما عرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حِمْيَر الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها).
وهكذا اختلطت المعارف الاسلامية فيما عدا الأحكام الشرعية بالثقافة اليهودية والنصرانية، ومن بينها ما كان ذا بُعد تاريخي قصصي، ففُسِّر القرآن بها، أو دُلِّس بها الحديث النبوي، ودخلت تفاصيل كثيرة في مجمل القصص القرآني من وحي الأساطير التي اكتتبها أحبار اليهود ورهبان النصارى عبر قرون مديدة سبقت الاسلام، وبعضها تحت تأثير ثقافات أمم احتلّت ممالك اليهود، أو تمازجت بها المجتمعات النصرانية.
وقد تحدث الكثير من الباحثين عن أثر الاسرائيليات على التراث الاسلامي وألّفوا في ذلك الكتب المفصّلة، وكلها تكشف عن الأثر السلبي الرهيب لهذا التداخل المعرفي.
ولنلحظ كنموذج النص التالي الذي يرويه الشيخ الصدوق في كتابه (عيون أخبار الرضا) عن حوار طويل جرى بين الامام على بن موسى الرضا عليه السلام وعلي بن الجهم، يكشف عن تأثير القصة الاسرائيلية الأسطورية في الثقافة الاسلامية، وفيه ان الامام سأله: (وأما داود عليه السلام فما يقول مَن قبلكم فيه؟ فقال على بن محمد بن الجهم: يقولون: ان داود عليه السلام كان في محرابه يصلي فتصور له ابليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير الى الدار فخرج الطير الى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثر الطير فاذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر اليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدِّم أوريا أمام التابوت، فقُدِّم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب اليه ثانية ان قدِّمه أمام التابوت، فقُدِّم فقُتِل أوريا فتزوج داود بامرأته.قال: فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال: انا لله وانا اليه راجعون، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله الى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل..الخ).علماً بأن القصة التي ذكرها ابن الجهم تقترب كثيراً من القصة التوراتية ولا أثر لها في القرآن الكريم.

-2 القُصَّاص:
الذين كانوا يدورون عادةً بين المدن والقرى ومرابع الأعراب يقصّون القصص كصنعة يتكسّبون من خلالها قوتهم، وبعضهم كانوا في الأصل من مشركي مكة، فاتخذوا القصة أداة لتنفيذ مؤامراتهم على الاسلام بعد ان بسط نفوذه.ومن هؤلاء (النضر بن الحارث) الذي يتحدث ابن هشام في (السيرة النبوية) عن شخصيته قائلاً: (وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسبنديار، فكان اذا جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه اذا قام، ثم قال ‏:‏‏ أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثاً منه، فهلم الي، فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول‏‏:‏‏ بماذا محمد أحسن حديثاً مني‏‏؟‏‏).
وعلى نهجهم سار بعض مَسلمة اليهود والنصارى والمجوس من العرب وسائر الأمم ممن لم يدخل الايمان في قلوبهم، فكانت القصّة سبيلهم للتلاعب في الموروث العقدي والثقافي والمعرفي الاسلامي.ولم يكن كل القصّاص من هذا النمط، فكثير منهم انطلق في هذا المجال تكسّباً للمال والشهرة، الأمر الذي جعلهم يكيّفون أساطيرهم بما يتوافق مع المزاج العام لجمهور المستمعين، وعنهم قال أبوحيان التوحيدي في (كتاب الامتاع والمؤانسة): (وليس يقف على القاص الا أحد ثلاثة: اما رجل أبله، فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه، واما رجل عاقلٌ فهو يزدريه لتعرضه لجهل الجهال، واما له نسبة الى الخاصة من وجه، والى العامة من وجه، فهو بتذبذبٍ عليه من الانكار الجانب للهجر، والاعتراف الجالب للوصل، فالقاص حينئذ ينظر الى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف، وحينئذ ينسلخ من مهماته النفسية، ولذَّاته العقلية، وينقطع عن الازدياد من الحكمة).
وعن السلبيات الأخرى لمسلك القصّاص ومجالسهم قال ابن الجوزي في (تلبيس ابليس): (ومن القصاص من يخلط فِي مجلسه الرجال والنساء، وترى النساء يكثرن الصياح وُجداً عَلَى زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن، جمعاً للقلوب عَلَيْهِ، ولقد ظهر فِي زماننا هَذَا من القصّاص مَا لا يدخل فِي التلبيس، لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشاً يستمحنون به الأمراء والظَّلمة والأخذ من أصحاب المكوس والتكسب به فِي البلدان، وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى وفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر).
وكان لعوامل الثروة والترف والفراغ الدور الواضح في التشجيع على انتشار ظاهرة القُصّاص وازدياد تفشّي القصص الخرافية في المجتمعات الاسلامية، بدءً من الخليفة ذاته ونزولاً الى عامة الشعب.وفي ذلك كتب د.أحمد حسن الزّيات في (تاريخ الأدب العربي): (لما أُترف العرب وحمل الأعاجم عن الخلفاء أعباء الخلافة، قطعوا لياليهم بالمنادمة والمسامرة، فتنافس الندماء في حفظ القصص والاسمار، وتسابق أدباء القرنين الثالث والرابع الى وضعها يسامرون بها الخاصة شفاهاً، واحتاج العامة من أهل الترف والبطالة الى من يسامرهم كذلك في ديارهم وأملائهم وأعراسهم).

-3 التصوّف:
لربما عرف المسلمون التصوّف بصورة واضحة في النصف الثاني من القرن الهجري الأول..ولا يخفى ان التصوف ليس بدعة اسلامية، بل عرفت البشرية التصوف في ديانات عديدة سابقة، ولربما كانت الهندوسية مبتدأها.واذ كان التصوف متناغماً في ظاهره مع بعض العناوين الاسلامية الأخلاقية كالزهد والقناعة وحب الله (وان اختلفت معها في العمق والتفاصيل)، وانسجم مع حالة التمرد على الفساد والظلم وحب الدنيا عند بعض المتدينين، فقد وجد طريقه الى المجتمعات الاسلامية، وشهد امتداداً كبيراً في بعض القرون اللاحقة.
وعُرف عن المتصوفة حبهم للقصة، لاسيما الرمزية منها، وعبّروا عنها في صورة نصوص نثرية وشعرية، كما عُرف عنهم التصديق بقصص (الكرامات) المنسوبة لمشايخهم، والاعتماد كثيراً على الرؤى، واعتبار (الكشف = انكشاف الحقائق وشهودها في عالم اليقظة وبصورة غيبية لا تتسنى الا للخواص) من أهم ان لم يكن أهم وسائل المعرفة الحقيقية..وتوارثوا ذلك كله وورّثوه للمجتمعات الاسلامية التي تفاعلوا معها، وبكل التنوع القصصي الذي حملوه من موروثهم الصوفي الهندوسي والبوذي واليهودي والنصراني والاسلامي وسائر امتدادات التصوف عبر الزمان والمكان.

-4 التمازج الحضاري:
كان للفتوحات الاسلامية التي اتسعت رقعتها بشكل كبير في نطاق أمم متعددة اللغات والمتبنيات العقدية والخلفيات الثقافية الدور في امتزاج الانسان المسلم (الفاتح) بها من جهة، ودخول أبنائها بما حملوه من تراثهم في الاسلام من جهة أخرى.فتغلغلت القصة الأسطورية من ضمن ما تغلغل من الفرس والروم والهنود والأكراد والترك والأسبان والبربر وغيرهم الى التراث الاسلامي، وبأنحاء مختلفة، من بينها على سبيل المثال كتاب عبدالله بن المقفع (كليلة ودمنة) الذي اختُلف في كونه فارسي الأصل أو هندياً أو غير ذلك، واسم عبدالله (روزبه) قبل ان يسلم، وقد اتُّهم بالزندقة. (أذكر الكتاب كمثال بغض النظر عن رمزيته ومضمونه الايجابي أو السلبي).

مواجهة الأساطير

في مقابل ذلك كله، نجد في الأحاديث المروية عن أهل بيت النبي عليهم السلام مواقف متعددة وحازمة في مواجهة القصص الخرافية ومَن يقف وراء انتشارها في المجتمع الاسلامي، وسنتعرض لذلك في العدد القادم باذن الله تعالى في اطار بيان التأثيرات السلبية لانتشار الأساطير.