لكي لا نسقط جميعاً - السيد علي فضل الله

شيء ما في نفوسنا يتهدَّم، وشيء ما في قلوبنا يحترق، وأشياء كثيرة من ثوابت قيمنا الأخلاقيَّة والروحيَّة تتزلزل، وذلك في ظلِّ مواجهتنا لمخطّط تفجير الوطن العربي والإسلامي تمهيداً لتقسيمه، ولو نفسيّاً، عن طريق إيقاع الفتن بين أبناء الأمّة الواحدة، ووسيلته في ذلك إشاعة المخاوف، والتّرويج لخطاب الكراهية والقطيعة والتّخوين، والإمعان في الفرز الطّائفي والمذهبي. أمّا خيارنا في ضوء الهداية القرآنيّة، فأن نغلق أبواب الفتنة من أيِّ جهة صدرت، وأن نعمل معاً للحفاظ على وحدة موقفنا لمواجهة أدواتها الشرّيرة، وأن نركّز على أنَّ الخطر الوحيد على أمَّتنا، هو في تحوّل بقاعها إلى ساحات للصّراع الدّموي بين الأخ وأخيه، تحت شعارات «دينيّة» أقلّ ما يقال فيها إنّها لا تمتّ إلى جوهر الدّين بصلة.
وفي ضوء هذا التمزّق الإسلامي ـ الإسلامي المتمدّد، ندقّ ناقوس الخطر، ونحذّر من ظاهرة تسخير الإسلام لمصالح القوى الاستعماريَّة، سواء عن وعي أو بدون وعي، على أنّه ومهما تكن وضعيَّة المشهد الإسلامي الرّاهن والتباساته، فإنَّ المطلوب من علماء الأمّة، التصدّي لأباطيل الفتن وذهنيّات التطرّف الدّيني وإلغاء الآخر المختلف، وتشريع أبواب الاعتراف بالآخر والانفتاح والتَّسامح، ذلك أنَّ الأمَّة حين تحمل مثل هذه القيم، ستكون منسجمةً مع ذاتها، وأقدر على مواجهة تحدّيات الإرهاب والاحتلال الّتي تنعش كلّ حالات التطرّف والجهل والعصبيَّة.
وهنا يجدر بعلماء الأمّة الانطلاق من آمال الشّعوب الإسلاميَّة نفسها في توحيد الموقف الإسلامي الصَّلب في وجه المؤامرات المتنقّلة على صعيد العالم الإسلامي كلّه.. ومهمَّتنا في هذه المرحلة الحرجة، أن نسترجع معنى الوحدة الّتي فقدناها، وأن نضع حدّاً لتلك المظاهر السيّئة الّتي نشاهدها من عدوان المسلم على المسلم، وبغضاء المسلم للمسلم، لأنَّ ما يجري اليوم لا يهدّد مصير المذاهب والأشخاص فحسب، بل يهدِّد مصير الأمّة كلّها.
نعم، علينا أن نعي أنّ لهذه الأمّة إسلاماً واحداً ومذاهب متنوّعة، تختلف وتتّفق، ولكنَّها مأمورة بالتزام نهج الوحدة والتّآخي، لأنَّ ضياعها وتمزّقها سيرتدّ سلباً على مصيرها وقدرتها على مواجهة التحدّيات. ولا يمكن إذاً أن يستقرّ حال المسلمين إلا بإصلاح ذات بينهم وتنمية أوضاعهم على مستوى حركاتهم وقياداتهم، لتزهر على أرض الواقع وضعيّة طبيعيّة لا تتنافر في عناصرها بنزعات التّفرقة بين مسلم سنّي ومسلم شيعي. وفي ضوء ذلك كلّه، يجب أن نصون وحدة الأمّة في مجال تنسيق المواقف والإرادات، لنواجه المشكلات الكبرى بعقل موحّد يحفظ مصالحها ومستقبلها.
وإذا كنّا نرفض تجزئة المنظومة الرّوحيّة لعبادتنا، فعلينا أن لا نفصل صلاتنا عن صومنا عن حجّنا عن زكاتنا وجهادنا في سبيل الله. ومن موقع إيماننا بوحدة قضايانا، لا نريد تجزئة آلامنا وأحزاننا، فنحن أمّة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى. ولا معنى لمقولة أن يكون للمسلم شخصيّته المستقلّة، إلا أن تكون هذه الشخصيّة مرآة للنهج الإسلامي في الوحدة والتّوحيد، فإذا انتهكت هذه القيم، انتهكت شخصيّة المسلم وانمحت هويته.
في القرن الماضي، تحدّث الإعلام الغربي عن كثير من الحروب الّتي جرت، كالحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة، فوصفها بأنّها حرب بين السنّة والشّيعة. وها نحن نسمع اليوم من تلك الأجهزة الإعلاميّة نفسها، إضفاء الطّابع المذهبي والطائفي على كلّ ما نراه من اصطفافات سياسيّة تتباين فيها الرّؤى والمواقف، بهدف توتير الأجواء الوطنيّة على أساس طائفي، وهذا ما يجعل الواقع الإسلامي مفتوحاً على فوضى الفتن وحركة المشاريع المشبوهة الَّتي تضرب وحدتنا، هذا الهدف النّبيل من مشروع رسالتنا السّمحة والرّحيمة. وما من شك في أنّ خطر ما يجري الآن هو في انتقال سموم الكراهية بين المسلمين إلى الأجيال اللاحقة، لترث عبء الاستسلام لثقافة التّفرقة في الدين.
وما يعنينا من ذلك كلّه، أن لا تنكسر بوصلة الصّراع مع الاحتلال، ليصير مآل قوى الأمّة في التّحالف معه، إحدى سمات هذا العصر الّذي يتقاتل فيه المسلمون خدمةً للاحتلال، وذلك تحت غطاء سياسي دوليّ يغذّي هذه الفتن بحروب داخليَّة، تستهدف تدمير بنية الوحدة وتجويفها، وجعل الأمّة برمّتها في مهبّ الرّيح.