دليل الحياة في القرآن - القسم الأول


القرآنُ كتابُ الحياة الأوّل:
يمكن القول بثقة تامة، واطمئنان علميٍّ عالٍ، إنّ القرآن الكريم هو كتاب الحياة الأوّل بلا مُنازعٍ، كيف لا وهو الذي شهد على نفسه بذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ…) (الأنفال/ 24). وكيف لا، وهو كلامُ خالق الحياة، الحكيم العليم، الذي يعلمُ ما يُصلِحها وما يُفسِدها؟!
إنّ كل آية من آيات الذِّكر الحكيم الضاجِّ بالحياة والحيوية، ناطقةٌ بالحق والصدق بأنّها: "مَعلمٌ حياتيٌّ، وبرنامج عملٍ، ومنهجُ هدايةٍ، وشريعةُ عدلٍ، وطريقُ رشادٍ، وقوانين قيادة، وسعادة، ونجاة.. هي إعمارٌ للكون كلّه، ودستورٌ للإنسان في الأساسيات من إحتياجاته. حتّى (التأريخُ) في القرآن الكريم موظّفٌ للحياة، لقد ارتحل شخُوصه من مسرحه، ولكنّ أحداثه ما تزالُ حيّة تتفاعل فيه ولو بأشكالٍ مختلفة، ففي قصص الماضين دروسٌ ومواعظُ وعِبَرٌ جمّة، تُغني عن تجشّم عناء التجربة، وقديماً قال العُقلاء: (مَن جرّب المُجرَّب حلّت به النّدامة). فتاريخُ القرآن مناهجُ، وسننٌ، وقوانينٌ جاريةٌ مجرى الليل والنهار، والشمس والقمر. فهو حياة معمّرة.
وليس في كتاب الله (كتاب الحياة) شيءٌ ترفيٌّ البتّة، فكلّ آياته: ذكرى، وهداية، وعمل، وتقديرٌ عالٍ لمصالح العباد وإزدهار البلاد. هو كتابٌ حياتيٌّ بامتياز؛ لأنّه يُقدِّم النموذج والأمثولة والأسوة، ويسوقها مقارنة بالضد النوعي "والضِّدٌّ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ". حتى حديثه عن الشِّرك والكُفر والضلال والنفاق، هو في الصُّلبِ من الحياة التي يحاول الجفاةُ المُعْرِضون المُشيحون بوجوههم عن الحقِّ – في كل وقتٍ ومكانٍ – أن يقودوها على هواهم، ووفقاً لأطماعهم، وطبقاً لأوهامهم وأباطيلهم، ولذلك كان من أبرز التجلِّيّات الحياتيّة في القرآن العظيم أنّه يُحدِّثك عن الحياة على نحو المقابلة، أي بشقّيها أو بُعدَيها: السّالب والموجب: عن الإيمان والكُفر، والخير والشّر، والعدل والظلم، والعلم والجهل، والصِّدق والنِّفاق، والبَذْل والبُخل، والإستقامة والإنحراف، والعمل والتخلُّف.
حتّى (تخويفاتُ) القرآن، ليست بتجميدٍ للطاقات، أو إصابة للحياة بالشّلل، هي بواعثُ تحريكٍ وتنشيطٍ باتجاه العمل الجادِّ المُثمر، ومحاربةٍ للفساد والمنكر، وبتعبير آخر: هي إنقاذٌ للحياة الكريمة ممّا يُربِك سَيْرَها الفعّال، أو يُعطِّلُ برامجها الخلاقة.
بل حتى آياتُ (الموتِ) في القرآن هي للحياة، فليس ثمّة إنقطاع، هي حلقاتٌ موصولةٌ، عبورٌ من قنطرةٍ ضيِّقةٍ إلى فضاءٍ فسيح، ولذلك قيل: "ما أقربَ الحياة من الموتِ"!! ألا ترى معنا أنّ قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "مَن ارتقبَ الموتَ سارعَ في الخيرات"، يعني أنّ (الموتَ) هو أحدُ مُنشِّطات (الحياة)؟! ولا يخفى – بعد ذلك – أنّ المراد بـ(الحكمة) في قوله تعالى: (.. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...) (النساء/ 113)، وقوله عزّوجلّ: (.. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...) (الجمعة/ 2)، هو الحكمة في الحياة. فالنّبي صلى الله عليه وآله مُعلِّمٌ بخطّين متوازيين: مُعلِّمٌ للكتاب (كنظريّة)، ومعلِّمٌ للحكمة (كتطبيقٍ حياتيّ)، ولهذا قال صلى الله عليه وآله عن القرآن: (هو الدّليلُ على السبيل، وهو كتابُ تفصيلٍ، وبيانٍ، وتحصيل)... يتبع.