القدس.. قضيتنا الكبرى - الشيخ علي حسن

(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)(يوسف:85).. طال الزمن بالقضية الفلسطينية حتى بات كثيرون يتحدثون بنفس هذه النبرة عندما يتناول أحدنا هذه القضية.
[ تالله تفتأ تذكر فلسطين حتى تكون حرَضاً (لا ميت فيُنسى، ولا حي فيُرجي) أو تكون من الهالكين.. إلى متى ستبقى تحمل همَّ هذه القضية؟! وقد طواها النسيان، وطغت على المشهد في المنطقة أحداثٌ أكثر سخونة ودموية.. من سوريا إلى مصر فليبيا فتونس فالعراق.. أما آن الوقت لكي يتم طي صفحة هذه القضية، فتتفرغ المنطقة لمستجدات قضاياها ومعالجة أوضاعها المأساوية وبناء مستقبلها؟
هذا هو الواقع، وعلينا أن نقبل به كما هو، وإلا سنبقى في وحول الماضي التي ستعرقل حركتنا للأمام، أو نغوص فيها تدريجياً حتى تبتلعنا! ].
لعل كثيرون هم الذين باتوا يفكرون بهذه الصورة، ويقتنعون بهذه الفكرة، وإن منعَهم الحياء أو الخوف من التصريح به.
بين العقيدة والأخلاق:
ولكن الذي يتعامل مع القضية لا من منطلق سياسي تحليلي، أو كحدث عرَضي أصاب جزء من الأمة، أو بنظرة تفكيكية ترى أن ينشغل كلٌّ في حدوده الوطنية.. بل من منطلقٍ عقائدي يقوم على وعيٍ للصراع الذي تعيشه الأمة الإسلامية ـ ومركزُ وقلبُ هذا الصراع هو القضية الفلسطينية ـ لن يقبل بهذا المنطق ولو تخلى الجميع عنها، وأداروا لها ظهورهم.
وهكذا هو الحال فيمن يتعامل مع القضية من منطلق أخلاقي لا يسمح له بالقبول بكل الجرائم التي ارتُكبت وما زالت تُرتَكب في إطار العدوان على الفلسطينيين، وسياسة التمييز بحق (فلسطينيي 48)، واغتصاب الأراضي، وبناء المستوطنات، وإحكام الخناق على أبناء الضفة وغزة، وما تقوم به مؤخراً من تغيير بطاقات هويَّة المقدسيّين، بحيث صارت تحمل صفة (مقيم) في المدينة، وليس صفة مواطن، وتحديد صلاحيّتها بعشر سنوات فقط! علماً بأن السلطات الصّهيونيّة، ومنذ احتلال القدس، سحبت بطاقة الهويّة من نحو 15 ألف مقدسيّ، وأحالتهم إلى لاجئين! وغير ذلك من الجرائم التي لا يمكن لها أن تسقط مهما امتد بها الزمن.
يوم القدس:
ومن هنا كان التاسع من أغسطس من عام 1979 يوماً مشهوداً، إذ انطلق الاحتفاء بيوم القدس العالمي، بنداءٍ من الإمام الخميني معتبراً إياه (رمز مواجهة المستضعفين للمستكبرين)، وباعتبار القضية الفلسطينية القضية المركزية التي يجب أن تبقى حية وفاعلة، لأن (مسألة القدس ليست مسألة شخصية، وليست خاصة ببلدٍ ما ولا هي مسألة خاصة بالمسلمين في العصر الحاضر بل هي قضية كل الموحدين والمؤمنين في العالم، السالفين منهم والمعاصرين واللاحقين) بحسب الإمام الخميني، ولأن (إسرائيل تعتبر بنظر الإسلام والمسلمين وكلّ الموازين الدولية غاصبة ومعتدية، ونحن نرى أن من غير الجائز التهاون والتساهل في الوقوف بوجه اعتداءاتها.. لقد قلت مراراً ولابدّ أنكم سمعتموني: أن إسرائيل لن تكتفي بهذه الاتفاقيات، وإنها تعتبر الحكومات العربية من النِّيل إلى الفرات حكومات غاصبة).
موقف مبدئي:
بمثل هذا الوضوح في الرؤية دعم الإمام الخميني القضية الفلسطينية قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وذلك حين كان في منفاه في النجف الأشرف، وقد أطلق فتواه بكل قوة بلزوم نصرة القضية الفلسطينية، وجواز المساهمة مالياً من خلال (الخمُس) لدعم المقاومة الفلسطينية، والتي تمثلت آنذاك في منظمة التحرير الفلسطينية. يومها لم يكن لدى الإمام الخميني لا مصالح حزبية ولا فئوية ولا مذهبية ولا قومية ولا حتى ذاتية حتى تضطره لاتخاذ مثل ذلك الموقف، بل كان الانتصار لهذه القضية ـ بالموازين المادية ـ تجارة خاسرة.. ويومها لم تكن له دولة يحكمها، ولا إعلام رسمي يتبنى خطاباته، ولا تكتيكات حكومات قد دخلت بعدُ في حساباته.. كما لم تكن قيادة النضال بيد الإسلاميين.
واستمر هذا الدعم حتى إذا انتصرت الثورة تجلّت الصورة بشكل أوضح في اتجاهات عديدة، ذات أبعاد سياسية ودينية وثقافية وإعلامية وعسكرية، كان من بينها إطلاق يوم القدس العالمي الذي يمثّل واحدة من المحطّات التي يستذكر بها العالم الإسلامي ظُلامة الشعب الفلسطيني، وجرائم الكيان الصهيوني الغاصب، ومحورية القضية الفلسطينية.
دلالات مهمة:
ويمكن القول أن من دلالات اهتمامه النوعي بالقضية الفلسطينية تأصيل حقيقة أن الاختلاف المذهبي لا يجب أن يكون عائقاً أمام نصرة المسلم مهما كان انتماؤه المذهبي، ولا مانعاً من تبنّي قضايا المسلمين، بل والمستضعفين في الأرض، مهما ابتعدت المسافات.. فالتدين الحقيقي والواعي إنما يُختبَر بمدى الالتزام بقضايا الأمة المركزية، وتحديداً في عالم السياسة والنضال، وليس في عالم التجريد والتنظير والانتظار السلبي للفرج، تهرباً من تحمل المسؤولية.
ولذا تجاوز الإمام الخميني الفروقات التي تمزّق الساحة الإسلامية، واعتمد مرجعية القرآن ومبادئ الإسلام في تكوين رؤاه حول أنبل قضية عرفتها الأمة الإسلامية في غضون القرن الأخير من عمرها. وكأني به يستحضر روحية الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ومبادئه وهو يرفع يديه بالدعاء لنصرة جيوش المسلمين في مواجهة أعدائهم، دون أن يكون لحقيقة أنها تحت إمرة الدولة الأموية المعروفة بعدائها لأهل بيت النبوة: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبغَ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مَؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعْنِهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ. أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَآئِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ..).
وبمثل هذا الإيمان الراسخ والبصيرة الواعية فلنتعامل مع القضية الفلسطينية، ولتبقَ القدس على وجه الخصوص في البال، فلا تغيب أمام الأوضاع السياسية التي تحيط بالمنطقة، فالكيان الصهيوني وحلفاؤه يعملون على أساس إبعاد قضيّة القدس عن أيّة مفاوضات، حتى تستكمل إسرائيل عمليّة الاستيطان اليهوديّ في المدينة المقدّسة، بحيث لا يبقى هناك شيء يُتفاوض عليه.
فلتبقَ فلسطين بقدسها قلب قضايانا النابض بجراحاته الغائرة.. تماماً كيعقوب عليه السلام حين ووجه بذلك اللوم والتخويف من الهلكة فقال بروحية الإنسان المتفائل توكلاً على الله: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف:86-87).