ما تصنع بالمجنون لو كنت محل الشيخ؟! سيد جابر علي

ما تصنع بالمجنون لو كنت محل الشيخ؟!
سيد جابر علي
رقى الشيخ المنبر وقد اكتظ المكان بالناس وبعد أن حمد الله وأثنى عليه دخل في موضوع خطابته بأريحية تامة، وبينما كان صوته يملأ الآفاق بترددات الصدى، وقد استحضر طرفة من التاريخ الإسلامي يمثل بها لمحل كلامه، والناس قد فتحوا آذانهم وأعينهم يحدقون النظر في إشارات يديه وقسمات وجهه الباسم، وإذا وجهه قد تغير وكأنه قد لحظ شيئاً في المجلس أفقده التركيز في خطابته، وجعلها مشتتة العبارة.. ثم توقف عن الكلام وأطرق برأسه رويداً وقد أطبق الصمت على المكان، وحام سؤال واحد لا غير في أذهان الحضور، كلٌّ يتساءل في نفسه ما الذي دهى الشيخ؟!
رفع الشيخ رأسه وخاطب قيم المجلس وهو يشير بيمينه إلى مجنون كان جالساً في الصفوف الأولى ومستقبلاً لمنبر الخطيب بحيث يراه الخطيب بوضوح تام، قائلاً: خذوه وأجلسوه في مكان آخر غير هذا المكان.. فردَّ عليه أحدهم وقال: يا شيخ إنه ساكت وساكن في محله فإذا كلمناه ربما أحدث فوضى في المجلس تعيق عليك مواصلة الخطابة.. هذا والمجنون لم يكترث وكأنه لم يعرف أنه المقصود بكلام الشيخ، فرد الشيخ على المقترح بالإيجاب قائلاً: حسناً.. ثم استأنف خطابه من حيث انقطع، ومازال بعض الحضور مندهشاً من موقف سماحة الشيخ، لأنه لم يعرف بعد ما هو سبب الاستياء من المجنون الساكت.
ورغم استمرارية الشيخ في خطابته إلا أنه مازال مرتبكاً ومشتتاً في تركيزه وكأنه يتحاشى النظر إلى المجنون، ولم يستمر كلامه طويلاً حتى انقطع مرة أخرى وصار الشيخ يتأفف هذه المرة ويشير إلى القيم بضرورة إبعاد المجنون عن الموقع المقابل للمنبر، وإلا أنهى الخطاب وفضَّ المجلس، فارتفعت الأصوات من هنا وهناك وقد كان أحدهم يلمز الشيخ إلى صاحبه بأنه شيخ عيار ومتسبب، وراح قيِّم المجلس يرفع صوته ويقول: يا شيخ ما مشكلة هذا المجنون وهو جالس في محله بأدب؟! فرد الشيخ وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة الحياء: (إني أرى ما لا ترون).. حينها قام أحد الرجال وأخذ المجنون بالحيلة إلى خارج المجلس وقد وعده بأن يعطيه من البرّادة القريبة ما اشتهت نفسه وبالمجان، فاستجاب المجنون له وبكل لطف وأدب..
أتدرون ماذا رأى الشيخ، وغيره لم يره، فعكر عليه صفو خاطره وقدرته على الخطابة؟! لقد رأى المجنون في المرة الأولى قد جلس مستقبلاً للمنبر بنحو تنكشف فيه عورته للشيخ، فتشتت تفكيره، وفي المرة الثانية تمادى المجنون في حركات غير لائقة، وكان المجنون إذا سكت الشيخ توقف عن فعله، هذا هو ملخص المشهد الذي كان الشيخ يراه بحذافيره دون أن يكون واضحاً عند بقية الحضور، فهل حق للشيخ هذا الإصرار على تحريك المجنون عن محله؟ أم كان مبالغاً في ذلك؟
أقول: ما أكثر القضايا التي نختلف في فهمها وتشخيصها، ومن ثم نختلف في الحكم عليها والموقف منها، وهي حالة ـ بهذا القدر ـ طبيعية للغاية، غير أن المشكلة تكمن في افتقادنا للتأني حال البحث عن سبب اختلاف الحكم واختلاف الموقف من القضايا، وميل النفس إلى تخطئة الآخر وكأنه بالضرورة قد رأى القضية من نفس الزاوية التي منها رأينا، مما يفتح باب الظن السيئ والتهمة على مصراعيه. دعونا نختلف في الرأي والحكم على الأشياء فإنه قدَرُنا، شئنا أم أبينا، نظراً لنسبية المعرفة البشرية، ومن الخطأ أن نجعل من أسباب الاختلاف أسباب خلاف بيننا، كما ومن الخطأ التقصير في محاولة تفهّم الآخر، والوقوف على الزوايا التي يشرف بها على الأشياء من حوله، فإن من اختلف معك في الرأي وإن بلغ عندك الوضوح ما بلغ، ليس بالضرورة معانداً وصاحب نفس مريضة، لأنه قد يرى من حيث لا ترى، وحقه أن يحكم على الأشياء من حيث يرى، وواجبنا بحكم العقل أن نجتهد في أن نريه ما نرى أو نتعقل من حيث يرى لنخلق استعداداً لتقريب وجهات النظر ولتتناغم الأحكام على قضايا الحياة. إننا اليوم نغرق في بحر من دم الخلاف الديني والمذهبي، ونغرق في بحر من التخوين السياسي، وتعصف بنا رياح الخلاف في قضايا الفكر والاجتماع، أمّا قاتلُنا فهو ادّعاء امتلاك كلِّ الحقيقة،ن ومسدَّس القداسة الذي ما فتئ العقل العربي يطلق منه رصاصات الاعتداء على الآخر، فتصيبه في منحر، هذا والجاني فوق الجرد وفوق النقد، وكأن الآخر يرى جنون الحياة بتقلب عوراتها تماماً كما نرى، فأنّى له الحكم غير ما حكمنا؟! إذاً هو مدان لا محالة، في حين أنه كالشيخ، يرى ما لا نرى فما عساه يصنع؟!