لماذا خلق الله الإنسان والكون؟ ولماذا أعاني؟

م. م. يسأل: أنا شاب ملتزم دينياً بشكل عام، ولكن في الآونة الأخيرة، وبسبب صعوبات حياتيَّة مختلفة، بدأ إيماني يضعف وتراجعت علاقتي بالله، لأنَّ هذه الصعوبات جعلتني أطرح تساؤلات لا أجد جواباً منطقيا لها، الأمر الَّذي جعلني أشك في أمور متعلقة بالله سبحانه. فلماذا خلق الله الإنسان والكون؟ وإذا كانت الجواب هو {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أو من أجل خلافة الأرض وإعمارها، فلماذا يخلق الله الإنسان، ويعرضه لشتى أنواع الابتلاءات، وقد ينتهي به المطاف خالداً في العذاب، من أجل عبادته وتقديسه، ونحن نعلم أن الله غير محتاج إلى ذلك؟ وحتى لو كان محتاجاً ـ حاشاه ـ فليس عدلاً أن نعاني من أجل سدِّ هذه الحاجة. ولماذا يخلق الله أرضاً من الأساس كي تكون هناك حاجة لعمارتها؟ ولماذا عليَّ أن أعاني في هذه الحياة من أجل إعمار الأرض التي أنشأها الله، والَّتي لو لم يخلقني عليها لما كان لي شأن بها أصلاً؟
سماحة (السيد شريف سيد) يجيب: أخي الكريم، بما أنَّك تملك قدراً من الإيمان كما قلت، فلا تقنط ولا تيأس، حتى لو كنت تعاني من حالة نفسيَّة صعبة دفعت بك إلى هذه الشّكوك، فالشكّ الذي يقودك إلى البعد عن الله، يقودك أيضاً إلى اليقين به والقرب منه.
أما لماذا خلق الله الإنسان والكون؟ وما الحكمة من ذلك؟! فذلك سؤال يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وكلٌّ يجيب عنه بشكلٍ يتناسب مع شعوره، وإذا علمنا سبب وجودنا، والغاية من خلقنا، عملنا وفق تلك الغاية، ونلنا السعادة، لأن السعادة إنما تتجلى بالعمل وفق الهدف المقصود والغاية المنشودة.
عندما ننظر إلى ما حولنا من نبات وحيوان وجماد، سنجد أنها خُلقت لأجلنا، يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 10 ـ 14]. والحيوانات سُخّرت لنا للأكل والركوب والسّتر قال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 ـ 8]. وأما الجماد، فسخَّره لنا للبناء والزينة والتداوي، وله فوائد أخرى لا تعد ولا تحصى.
وإذا كانت الحيوانات تنام وتأكل وتشرب، وقد خُلقت لأجلنا، وكذا الجماد والنبات، فلماذا خُلقنا نحن مع علمنا أننا غير مسخَّرين لموجودات أخرى؟ وكلها مسخَّرة لنا؟ والجواب: إنما خُلقنا لنتكامل، والتكامل يتحقَّق بتطبيق ما أمرنا الله به، واجتناب ما نهانا عنه، وإذا عبدناه تفاضلت عباداتنا، وتفاضل إيماننا، وتفاضلت منازلنا، وبالتالي، تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا. وعطاء الله مبذول للكل. فالله خَلق ليُعطي، وكلنا مستحقون للعطاء بحكم رتبة العبودية.
وبعد ذلك، نذهب من هذه الدنيا المؤقتة، من دار العمل والامتحان إلى حياة دائمة خالدة، إلى روح وريحان، إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدَّت للمتقين. ونحن لم نُخلَق لهذه الدنيا، وإنما سنرجع إلى الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115]، ولو لم يُبعث الإنسان بعد الموت، ويميز الخبيث من الطيب، ويجزي كلاً ما يستحقّ، لكان خلق الإنسان عبثاً لا جدوى منه.
أما سؤالك عن الغاية من المعاناة، فأقول: إن الله تعالى وصف نفسه في آيات جمة بـ (الرحمن الرحيم)، فكل ما صدر عن الله تعالى، إنما هو لتكميل هذا البشر الناقص، وإبلاغه أسمى مراتب الكمال البشري، ولو علم الإنسان ما يبلغ إليه من مراتب رفيعة، ومقامات تفوق مقام الملائكة المقربين، نتيجة الطاعة، لعلم أنَّ خلقه من جانب الله رحمة لا تتناهى ولا تُحَد، والمطلوب هو أن تقوم بدورك المحدود وفق قدرتك واستطاعتك، وأن تؤدي الواجب المطلوب منك تجاه نفسك وعلاقتك بالله وبالناس.
والحوادث والأيام بما تحمل من متاعب ومصاعب وشدة وعسر، وكذا من أفراح وأتراح، ولين ويسر، كلها محطات امتحان للإنسان، ليرى أيشكر أم يكفر. قال رسول الله(ص): (عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له). واعلم أنه لا يطفئ نار مصيبتك، مثل برد التأسي بأهل المصائب، ولتنظر يمنةً، فهل ترى إلا محنةً!؟ ثم لتعطف يسرةً، فهل ترى إلا حسرةً؟!
ثم إن مما يصيب الإنسان في حياته الدنيوية من فقر وسقم، إنما هو لتطهيره وتزكيته وتكفير ذنوبه، فلا داعي لليأس والقنوط، إنما هي وساوس الشَّيطان تحاول أن تحرفك عن دينك وإيمانك، فالله تعالى ليس عادلاً فحسب، بل هو أرحم الراحمين، ومن رحمته أنه أوجدك وأعطاك ورعاك ولا يزال.. إنَّ الإنسان المؤمن بربه، المؤمن بعقيدته، المؤمن بقيمه، لا يُقدَّر بثمن. إنَّ الإنسان الَّذي يعي معنى وجوده ولماذا خُلق، هذا الإنسان لا يقدَّر بثمن.