التنمية .. قعقعة السلاح .. والانتخابات - الشيخ علي حسن

غالباً ما تكون قعقعة السلاح هي الصوت الأعلى، ولذا فإننا عادة ما نقرأ سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام في سنوات حكمه من خلال حروبه، ونهمل أن لعلي عليه السلام في تلك السنين إنجازات على مستويات مختلفة، من بينها إنجازاته على مستوى التنمية في المجتمع.
التنمية الاقتصادية:
في بحار الأنوار أنه خطب عليه السلام ذات يوم فكان فيما قال: (إنه ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعماً) صاحب نعمة وافرة أو في رخاء (إنَّ أدناهم منزلةً ليأكل البُر) فلا جائع في الكوفة، بل والطعام الأدنى هو البُر، والبُر أرقى من الشعير الذي اعتاد العرب أكله (ويجلسُ في الظل) أي يمتلك سكناً ومأوى (ويشربُ من ماء الفرات).
والإمام يتحدث عن الحالة الاقتصادية للكوفة بما هي مدينة كبيرة، بتنوعها البشري، وميولات أبنائها المتضاربة، وفي إحصاء أجراه زياد بن أبيه بين (45هـ - 53هـ) بلغ عدد المقاتلة فقط ممّن يفرض لهم العطاء ستين ألفاً، وعيالاتهم ثمانين ألفاً.
وتتضح الصورة أكثر عند دراسة كتابه إلى عامله على مصر مالك الأشتر، حيث يتبين فيها للقارئ معالم التنمية الاقتصادية واتجاهاتها وأهدافها عند الإمام عليه السلام، وسأعرض جزئية الضرائب فقط حيث كتب: (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرُك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفَّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك). ولو أخذنا هذه المفردة فقط في مقارنة بين سياسة الإمام علي التنموية وممارسة حكومات كثير من دول العالم الثالث لأدركنا حقيقة التنمية وأهدافها في دولته عليه السلام.
الرعاية الاجتماعية:
ولها صور كثيرة، كان يقوم على بعضها بنفسه، حيث يخرج في آخر الليل متنكراً ليوصل المساعدات إلى بيوت الأرامل واليتامى والضعفاء، كما كان يتفقد بنفسه شؤون الناس المختلفة، وما كان ليسمح بوجود مَن يستجدي ويمد يد الحاجة، وعاش هَمَّهم ولو كانوا يعيشون بعيداً عن مقر حكمه، ولم يملك أن يعرفهم ليصلهم بالمعونة، فاختار أن يواسيهم حيث قال: (ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبنى هواي، ويقودنى جشعي إلى تخيّر الأطعمة، و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمَع له فى القُرص، و لا عهد له بالشّبع أو أبيت مبطاناً و حولي بطون غرثى، و أكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:
و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسى بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم فى مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش؟).
وأما من اطّلع على شأنه، فقد بادر لمساعدته، ففي كتاب التهذيب للشيخ الطوسي: (مرَّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال).
وفي هذا النص دلالة على أن الناس في هذا الشأن كانوا سواسية عند علي عليه السلام باختلاف أديانهم، وقد أوصى مالكاً الأشتر بذلك، وحثّه على أن يعاملهم جميعاً بحنان الأب حيث قال: (فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)، وسيأتي ما يؤكد الفكرة ذاتها في نص لاحق.
واستمر عليه السلام على ذلك حتى آخر لحظات حياته، ففي كتاب الاختصاص: (ثم دخل الناس عليه قبل أن يستشهد بيوم فشهدوا جميعاً أنه قد وفر فيئهم وظلَف عن دنياهم) أي كان في خشونة من العيش (ولم يرتش في إجراء أحكامهم، ولم يتناول من بيت مال المسلمين ما يساوي عقالاً، ولم يأكل من مال نفسه إلا بقدر البُلغة، وشهدوا جميعاً أن أبعد الناس منهم بمنزلة أقربهم منه).
التنمية السياسية:
وفي مجال التنمية السياسية، نشهد عملياً حالة واضحة من التشجيع على نيل الأفراد حقوقهم السياسية بجانب التنظير ووعظ ولاته والقائمين على إدارة شئون دولته بضرورة الأخذ بذلك، وهو يقدِّم صورة مشرقة للحاكم الفذ الذي يقبل الرأي الآخر، بل ويشجعهم على التصريح بما في مكنون قلوبهم، ويتجاوز عن زلاتهم، وفي ذلك رسم لهم معالم الطريق لطبيعة حكمه والعلاقة المتبادلة بينه وبينهم، قال: (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة) الذين يبادرون بردود فعل غاضبة (ولا تخالطوني بالمصانعة) التملق والنفاق (ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، فإنه من استَثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرض عليه كان العمل بها أثقل عليه! فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي).
وضَمِن الإمام عليه السلام للمعارضة حقوقهم الاجتماعية والدينية والاقتصادية والأمنية ما دامت معارضتهم سلمية، ففي كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: (أنه خطب بالكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا الله، فسكت أمير المؤمنين عليه السلام، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا قال: كلمةُ حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفئ ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا).
ظروف صعبة:
كل هذا وعلي عليه السلام عاش فترة حكم في ظل عدم استقرار سياسي وأمني معروف، فقد عاش فتنة حرب الجمل، ثم صفين ثم الخوارج في النهروان، ثم توالت هجمات السرايا التي كان يرسلها معاوية لأطراف حكم علي عليه السلام حتى قال: (فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنَّت عليكم الغارات ومُلكت عليكم الأوطان. هذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار وقُتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كَلْم ولا أريق له دم. فلو أن امرءً مسلما مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان عندي به جديراً). فماذا لو كان الوضع مستقراً سياسياً وأمنياً؟ لاشك أننا كنا سنشهد إنجازات أكبر وأكثر.
الكويت والانتخابات:
وهذا يجرنا إلى الحديث عن الاستقرار السياسي في الكويت في إطار السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالكل مدرك أنه ما لم نشهد استقراراً في هذا الإطار، فلن تكون هناك تنمية حقيقة وفاعلة وعلى أسس علمية ومدروسة، وستستمر حالة التخبط في التعامل مع الوفرة المالية التي يعيشها الاقتصاد الكويتي، وهي وفرة مؤقتة كما يؤكد الخبراء.
وجانب مهم من مسؤولية تحقيق هذا الاستقرار يقع على عاتقك أنت أيها الناخب، ولدي هنا رسائل قصيرة وسريعة:
1ـ لا نريد أن نتبرأ من انتماءاتنا المذهبية، ولكن دعونا لا نحوِّل هذه الانتماءات إلى معاول هدم للمجتمع من خلال توظيفها سلبياً في العملية الانتخابية. فباختيارك للمرشح الأفضل كفاءةً ووعياً ونزاهةً وتقوىً ووطنية، بعيداً عن عناوين التعصب الطائفي والقبلي والعرقي والعائلي، تساهم في تحقيق هذه التنمية التي طالما تشتكي من تعثرها.
2ـ بيعك لصوتك يعني أنك قد بعت وطنك للفاسدين، وليس في الأمر أيُّ غطاء شرعي أو مبرر عقلي، ولا حق لك حينئذ أن تحتج على سلبية هنا أو خطأ هناك، فالذين يشترون الأصوات هم فاسدون لا محالة، ولن يعملوا إلا لمصالحهم، وبالتالي فإن المشتري مُدان كما البائع والوسيط بلا فرق.
3ـ الولاءات المعلبة التي لا تأتي عن تفكير وتدبّر في من هو الأصلح، بل تأتي استجابةً لعصبية عرقية أو طائفية أو حزبية لن تغيِّر من المشهد شيئاً، وستعيد المجلس إلى سيرته الأولى.. ولو أن الناخب يعي تبعات صوته الذي يُدلي به في لحظة مُستصغَرة من الزمن، لشعر بثقل تلك اللحظة، ولفكّر مِن قبلُ وتدبَّر فيمن يستحق أن يضع ثقته فيه، ويسلِّم أزمَّة البلد بيده.. فكن حراً فيما تختار.
4ـ إن سعي بعض الأطراف لدفع الناس للكفر بالعملية الديمقراطية يجب أن يدفعك للمزيد من الحماسة في الحفاظ على هذا المكتسب الشعبي الذي يمثّل حقاً كفله لك الدستور، وضمانة مهمة في أمن البلد واستقراراه وازدهاره.