خطبة بمناسبة ذكرى رحيل الإمام الخميني

خطبة ألقاها سماحة الشيخ علي حسن غلوم بمناسبة ذكرى وفاة الإمام الخميني رحمه الله تعالى
يسألونك عن الروح
المشهد الأول
(في خمين)
يسألونك عن الروح... في صفائها... في نورها... في سر الحياة المخزون فيها... في سر عطائها الذي لا ينضب... عن سرِّها المكنون في أم الكتاب... في اللوح المحفوظ...
ليل أدهم يكاد يصبغ المكانَ بوحشةٍ أبدية... وسكونٌ تحسَب معه أن الحياة قد فارقت كلَّ شئ... وتمتماتٌ تخرُقُ حجبَ الظلام وترتفعُ نبرتُها من حينٍ إلى حين... تتعالى من شفتي ذلك الفتى: (إلهي إنك أيَّدت دينَك في كل أوانٍ بإمام ٍ أقمتَه علَماً لعبادك ومناراً في بلادك،... إلهي فأحيِ به ما أماته الظالمون من معالم دينك، وامحَق به بغاةَ قصدِكَ عِوجاً).
وتمتزجُ دموعُ الفتى بكلماتِه، ويخفُقُ قلبُه مع وَقْعِ حروفِها الملتهبةِ شوقاً لرؤيةِ صاحبِ الذِّكر... ويملأ المكانَ دفءٌ غريب... يفيضُ على روحانيةِ المكانِ روحانيةً... ويكسوه رداءً من الطُّهر... وتنطلق به آلامُ هذا الزمانِ الذي تلاطمَت فيه أمواجُ الفِتن... فغدا كبحرٍ لجّي يغشاه موجٌ من فوقِه موجٌ من فوقِه سحاب، ظلماتٌ بعضُها فوق بعض... تنطلق به بعيداً إلى (أور)... المدينةِ الخالدة... هكذا كانوا يسمونها... وتوقفه على أرض التاريخ: [ولقد آتينا إبراهيم رُشْدَه من قبلُ وكنّا به عالمين، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟]... إبراهيم! يا فتى (أور)... اصدع بما تؤمر وأعرِض عن المشركين... إنا كفيناك المستهزئين... وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلاً... وسَرَتْ روحُ القدُس في عروق فتى (أور)... [تالله لأكيدنَّ أصنامَكم بعد أن تُولّوا مدبرين، فجعلهم جُذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم يرجعون]...
اشتعلَت في أعماقِ الفتى جذوة الفَخْر... وتطلَّعَ بقلبِه الأزهر عبرَ حُجُبِ الزمان... وتهدهدَتْ كلماتُ العزَّةِ كأنها السيلُ الجارف: لبيك يا إبراهيم... لبيك يا فتى أور... لبيك يا محطم الأصنام...
وراح الفتى يقلّب صفحاتِ الأيامِ في ذاكرة التاريخ: صالحٌ وثمود... هودٌ وعاد.... موسى وفرعون... عيسى وبني إسرائيل... محمدٌ وقريش... [ إنا لننصرُ رسلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويومَ يقوم الأشهاد]... سنةُ الله في الوجود... ولن تجد لسنة الله تبديلاً...
وتهاوى شموخُ ذلك الفتى بين يدي ربِّه في سجودٍ كأنه الدهر في عمق الزمان: إلهي يا من لا يخفى عليه أنباءُ المتظلمين، ويا من قرُبَت نُصرتُه من المظلومين، ويا من بَـعُدَ عونُه عن الظالمين، إلهي بعزتك انصر حماة الدين...
وعاد المكان إلى الهدوء... ولكن قلبَ ذلك الفتى لم يهدأ... ولن يهدأ... لأنه روحُ الله...

**************

المشهد الثاني
(في المدرسة الفيضية)
[والاستصحاب على أقسام، فمنه الوجودي، ومنه العدمي، ومنه الحكمي، ومنه الموضوعي، هكذا قال شيخنا الأنصاري رحمه الله، وهو ما سنأتي على بيانه في درس الغد بإذن الله]...
وأغلق الأستاذ كتابَه... وراحَ يتطلعُ في وجوه حوارييه... نظراتُ الحيرةِ باديةٌ في عيونِهم... وإنْ حاول بعضُهم إخفاءَها بإثارةِ سؤالٍ أو إبداءِ ملاحظة... نظراتُهم تكادُ تنطقُ بالحقِّ الصريح... لولا ذلك الدخانُ الأسودُ الذي صبغَ الحياةَ بلونِ النَّحسِ في كلِّ مكان... وسرّحَ قِطعَ الليلِ المظلمِ في واضِحَةِ النهار... فهالَ منظرُه القلوب... وأخرس غيظُه الألسنَ عن النطق... وانقاد الناسُ لغروره في بُهتٍ عظيم...
حدّق الأستاذ في حوارييه... وانحدر منطقُ الحقِّ من ثغرِه كالسيل: حتـّـام هذ السكوت؟ قابيل مازال يهوي بحجرِ البغيِ على رأسِ أخيه... وفرعونُ الذي لفظَته أمواجُ اليمِّ ها هو يحيى من جديد... ويلفُظُ غطرستَه من فمه الكريه: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ... مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي... فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ... فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ... وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلى الله لا يُرْجَعُونَ... وقريشُ البغي تصب جبروتَها العاتي... ورائحةُ سلا الجزور ما زالت تُزكِمُ الأنوف... تريدُ أنْ تدنِّس طُهرَ محمد... إنها حقائقُنا الكبرى التي نراها ساطعةً كالنار... وتلسعُنا همجيَّتُها... هل آل أمرنا أن لا تملُكَ عيونُنا غيرَ نداها الساخن تُشفِق به على جليد الشرِّ المتصلب؟ وهذه الأرض التي خذلها قابيلُ بحجرٍ... قد تمادت في الخَرَس مثل أمٍّ فقدت الأملَ في صلاح أبنائها... ولم يبقَ لها غير التحديق في ورقِ الزمن الباهتة... إنَّ جليد الضمير لن تذوِّبَه سخونةُ الدموع... بل بخارُ الدمِ المتدفقِ من أوداجِ الحسين...
وتأمّل الأستاذ في عيون حوارييه من جديد... وقرأ فيها طالعَ المستقبلِ القريب... نجومٌ تُفصِح عن غدٍ سيلدُ وجوهاً من نارٍ ورماد... وشوارعَ محزومةً بكِسَرٍ من زجاج... وطيورٌ ترفرفُ بأجنحةٍ حمراء... تُخبر عن ليلٍ طال أكثر مما ينبغي... وآن للفجر أن ينبلج...
وعاد المجلسُ إلى الهدوء... ولكن قلبَ ذلك الأستاذِ لم يهدأ... ولن يهدأ... لأنه روحُ الله...

**************





المشهد الثالث
(أحداث 15 خرداد)
لم يعُد المكانُ كسابقِ عهدِه... كلُّ شئٍ قد تغيَّر... ذلك الهدوء ما عاد له متَّسَع... وتلك النظرات الحائرة غابت عن عيون الحواريين... وحلَّت مكانَها نظراتٌ ملؤها العزمُ والتحدي... رجالٌ لا يُلهيهم شئٌ عن ذكرِ الله ونُصرة دينهِ... قد ازدانوا بتيجانِ العرب... ولبسوا العزَّ رداءً والصبرَ وِقاءً وحملوا الإيمانَ سلاحاً...
(يا حمَلَة أمانةِ الوحيِ والرسالة... يا صانعي الملاحمِ الخالدة... يا حملةَ العلمِ ورجالاتِ الجهاد...)... نداءاتُ (الثائر الأكبر) ألهبَت في نفوس حوارييه معانيَ حياةِ العزةِ والكرامَة... وأشعَلَت قبسَ الحقِّ في قلوبـِهم... فانطلقوا زرافاتٍ ووِحداناً ملبّين... في خشوعِ رُهبانِ الليل وشجاعةِ فُرسانِ الحروب...
هتافاتٌ في أرجاء المدينةِ المحرومة... الله أكبر... وليسقط الطاغوت... وطيور الشؤم في كل مكان... تحفُرُ بمخالبـِها القذرةِ قبوراً تواري سوأةَ الظلم والطغيان...
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ... وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً...
وصرصرت أصواتُ البنادقِ تَقرَعُ طبولَ عدوانٍ همجي على فتيةٍ يحمِلونَ مِعولَ إبراهيم... فتى (أور)... وهم في طريقِهم إلى معبَدِ العُهرِ ليحطّموا الصنمَ الأكبر... فهَوَت الأجسادُ الطاهرةُ على مذبحِ الآلهة... وتكالبَت عليها عُسلانُ الفلواتِ في لحظةِ غَدْر... تُقطِّعُ أوصالَها برصاصاتِ الحقدِ الموروث عبرَ القرون... منذُ نمرود وفرعون وهامان وأبي جهل وسليلِ آكلةِ الأكباد... وجاسَ المفسدون خلالَ الدِّيار... قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ؟... أأنت فعلت هذا بآلهتنا وأنت الحليمُ الرشيد؟... قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا... أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ... ويا قومِ مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؟ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ... وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ... وهم لا يعلمون أنهم أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ...
أيها الثائر الأكبر... إن لم تكن تَسَعُكَ هذه الأرضُ المحرومَة... فإنَّ قلوبَنا تحملُك... وآهاتنِا تبعثُ إليكَ رسائلَ النُّصرةِ الصادقَة... وما في أرحامِ نسائِنا تتهيأ لقادمِ الأيام... حين يمنُّ اللهُ على الذين استُضعفوا في الأرض فيجعلُهم أئمة ويجعلُهم الوارثين...
وعادت المدينة المحرومة إلى الهدوء... ولكن قلبَ ذلك الثائرِ الأكبر لم يهدأ... ولن يهدأ... لأنه روحُ الله...

**************


المشهد الرابع
(انتصار الثورة)

هناك.. حيث ثرى جدِّه عليّ.. يخُطُّ الإمامُ النصرَ بمدادِ الثورة... ويرتِّلُ ترانيمَ الشهادةِ في محرابِ التَّضحيات: ياأبناء الإسلام... حطَّموا رَصاصاتِ الطغيانِ بصدورِكم العارية... واكسِروا دُرَّةَ الجلاّدِ بظهورِكم الممزَّقة... واصبـِروا على خُطى عليّ... على نهجِ الحسين... على وقع آلامِ زينب... فإنَّ النصرَ قريب.... هذا هو وعدُ اللهِ الصَّادق...
وتفجَّر التُّرابُ دماً أبيَض.. كسَر ظُلمةَ الهواءِ العفِن الذي نفثَـتْـهُ أنفاسُ كِسرى المخمور... وامتلأت كؤوسَ الخيانةِ وعودَ الخداعِ والغَدْر.. يا أيها الملأ... ما أريكم إلا ما أرى... وإِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ... يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ... وجاءت لحظةُ صمتٍ لم تَـدُمْ... فجَّرتْها قَطرةُ جُرحٍ رنَّت كملايينِ الأجراس... فانطلقت لوَقْعِها الأنفاسُ تَهتُف: لبيك يا إمام... لبيك يا إمام... وامتزج عِطرُ دمِ الشهادة برائحةِ البارودِ الأسود... إلى الأبد...
أشرقت شمسُ يومٍ جديدٍ من مغربـِها.. تتطَلَّعُ إلى فجرٍ آخرَ يشتدُّ مع صوتِ المنادي وهو يعتلي المنبر... ويؤذّن في ذاكرةِ الحُلْمِ: افتَحوا نوافذَ الليلِ على صدرِ الدعاء... وأسبـِغوا الوضوءَ بدمائِكم الزكيَّة.. وقاتلوا بأجسادِكم ديدانَ العفَنِ الزاحفةَ نحوَها من أزمنةِ حَظْرِ الشَّمس...
وجاء الفجرُ الموعودُ من مغربِ الشمسِ المطمئنة... وفتَحَ بوابةَ ضيائِه على كلِّ الزهورِ التي مدَّتْ أعناقَها لتحتضنَ الطائرَ الأبيض... وحطَّ الطائرُ بريشِه الناعمِ يشاكسُ خُشونةَ الأرض... وحمَلتْ الريحُ مِن صوتِه وتَراً دامياً... وصيحاتُ غضب... وحمَلت الشمسُ من أحداقِ عينيْهِِ لونَ اللهب... آهٍ يا لعينيه... يا نافذتيْ نورٍ على هذا الزمانِ الموصَد...
عشر ليالٍ أعادتْ كتابةَ التاريخِ على جذوعِ أشجارِ الزيزفون... على عُرجونِ النخيل... على صفحاتِ الماء... على قممِ الجبال.. على أجنحةِ الطيور.., وأنشَدَتْ مزاميرُ داودَ أهزوجةَ النصرِ المبين.. وتراقصَتْ سنابـِلُ القمحِ تحتَ أنظارِ السماء... ولعَقت الأرضُ جُروحَها النازفة... واحتضنت أكفان أبنائها...
وعادت المدينةُ المنتشيةُ إلى الهدوء.... ولكنَّ قلبَ ذلك الإمامِ لم يهدأ.. ولن يهدأ.. لأنه روحُ الله...








المشهد الخامس
(ساعة الرحيل)

جماران... قِبلةُ الأحرار... تبكي فِراقَ شيخِها الوعِك... تلثمُ مواطئَ قدميْه... تتنفسُ زفيرَ كلماتِه الروحانية... وتقرأ الثوانيَ الدائرةَ في الفراغ... تدورُ عقاربُ الساعة... ولا يدورُ الزمن... ليعودَ إليها بشيخِها... بمعشوقِها... وتبقى تُدمدِم:
[كيف افترقنا يا حبيبي؟... والدربُ يعرفُ شكلَ خُطوتِنا... ويعرِفُ لونَ خيمتِنا... ويعرف نبضةَ القلبِ المجَرَّح... والدربُ يعرفُ أننا نبكي... ونبكي... ثم نفرحْ... فهل سنفرح؟ ما أجملَ الجُرحِ الذي ينشقُّ عن مُهرٍ مُجَـنَّحْ... ما أجملَ الجُرحِ الذي برموشِ عاشقهِ توشَّحْ... وشفاهُنا تحكي... وتحكي... غيرَ أنَّ الجُرحَ أفصحْ ]...
وعادتْ جماران ترقبُ ساعةَ العودة... ولكنَّ معشوقَها قد تأخَّرْ...
آهٍ يا جماران... جُرحُكِ قد تفتَّقْ... جُرحُكِ الدامي قد توقفَ عن النزفِ أخيراً... وبماء الكوثرِ قد تَطهّرْ... ولكن... لا تفرحي ياجماران... فجُرحُكِ لن يعرفَ ـ بعدَ اليومِ ـ عِطرَ دمهِ الأطهرْ...
آهٍ يا جماران... أسبـِلي جِفنيكِ على جَمرِ الفِراق... وخذي الدمعَ الذي يقطُر من جَمْرةِ قلبي... وشظايا كبدي... فإنَّ أنفاسَ شيخِكِ قد سالتْ كأنشودةِ عاشقْ... وكلُّ الكلماتِ احترقَت فوق يدي... ودمي يشربُه الحزنُ الذي لوَّن أمسي وغدي... ومزَّقتُ أكفاني عن سوادٍ لفَّ أنفاسي... ودفنتُ روحي بليلٍ ما عادَ يسمعُ تمتماتِ شيخكِ العاشقْ...
وهدأ قلبُ ذلك الشيخِ... أخيراً... ولكنَّ الكونَ لفراقِه لم يهدأ... ولن يهدأ... لأنه روحُ الله...
يسألونك عن الروح... عن روحِ الله... قل الروحُ من أمر ربي... وما يعلم سرَّه إلا الله...