ليلة القدر - العلامة المرجع السيد فضل الله

هذه اللّيلة هي اللَّيلة المباركة كما عبَّر الله عنها {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدّخان : 3-4]. وقد تنوَّعت الآراء في معنى كلمة القدر، ولعلّ الأقرب أنّ القدر هو التّقدير، لأنّ هذه اللّيلة هي اللّيلة الّتي أرادت حكمة الله تعالى أن تجعلها اللّيلة الّتي ينظّم الله فيها للنّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم الخاصَّة والعامَّة، وفي كلّ حركتهم في عالم التحدّيات، وفي عالم الصِّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار. فالله سبحانه وتعالى هو المدبّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشّيء كن فيكون، ولكنّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزَّمن، ولذلك خلق الأرض والسَّماء في ستّة أيّام، وهو قادر على أن يخلقها في لحظة، أمَّا هذه اللّيلة، فإنَّها اللَّيلة الّتي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الّتي تملأ كلّ ساعاتها، تماماً كما يضع الله الأسرار في المكان، فهناك مكان يعظّمه الله كما الكعبة، وفي الزّمان في بعض اللّيالي والأيّام، كيوم عرفة، وما إلى ذلك، كذلك أودع الله في هذه اللّيلة أسراراً روحيّةً تنظيميّةً سخيّةً عظيمة، تستوعب الكون كلّه، وتشرف على كلِّ قضايا الإنسان في كلِّ حياته، بحيث تحدِّد له أجله، وتحدِّد له رزقه وصحَّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، فهي اللّيلة التي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنّ الله سبحانه عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السببيّة: {قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شيءٍ قَدْراً}[الطّلاق: 3]، {إنّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر}[القمر: 49]. ولذلك، فإنّ الله جعل هذه اللّيلة اليتيمة في السّنة، جعلها خيراً من ألف شهر، وأراد أن يبيّن لنا أن حجم الزّمن لا يقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من أسرار، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات.
ونلاحظ أيضاً أنّنا في هذه اللّيلة، نعيش في الأجواء الّتي تتحرَّك فيها الملائكة، الَّذين حدَّد الله لكلِّ واحدٍ منهم وظيفةً ومهمَّة، فالملائكة موظَّفون عند الله، وهم {عبادٌ مُكْرَمُون * لا يَسْبقُونَهُ بالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون}[الأنبياء: 26-27]. ولكن كيف يدير هؤلاء الملائكة أمورهم ويقومون بمسؤوليّاتهم؟ فهذا أمرٌ لم يعرّفنا الله إيّاه، بل هو من أسرار الله ومن خفايا غيبه، لأنّنا لا نرى الملائكة ولا نشعر بحركتهم، ولكنَّهم يعيشون في أجوائنا عندما نجتمع لنعبد الله، ونصلِّي له، ونبتهل إليه، ونخشع بين يديه، وهم يباركوننا. وقد حدَّث الله عن الملائكة أنَّهم يستغفرون للّذين آمنوا، أي أنَّ الملائكة يطلّون على البشريَّة ويتابعون ما يقومون به من أعمال، وخصوصاً الملكان، ليستغفروا للّذين آمنوا وتابوا.
ثمّ إنّ الله جعل هذه اللّيلة ليلة السّلام الّتي يفرغ الإنسان فيها قلبه من كلّ حقدٍ وعداوة وبغضاء، وهذا هو شعار الإسلام، فتحيّة الإسلام الطبيعيّة سلام، ولذلك، هذه اللّيلة هي ليلة السّلام الّتي نجلس
فيها بين يدي الله، لنفتح قلوبنا له، لنفرغها من كلّ ما يسخطه سبحانه.
والله أخفاها حتّى يهتمّ النّاس بها، واللّيالي العشر الأواخر من شهر رمضان، يستحبّ للإنسان المؤمن أن يحييها بالعبادة. ونحن نعرف أنّ الخلاف حاصل في تحديد أوّل الشّهر، وسواء كانت في هذه اللّيلة أو تلك، ماذا سنفعل بها؟ سندعو الله ونقرأ القرآن، وندعو دعاء الجوشن، فإذا كلّها متشابهة، لماذا التعصّب؟ الله أكرمنا بليلة القدر حتَّى نبتعد عن العصبيَّة، لا لنتعصّب، وإن شاء الله يكون الجميع معذورين. ولذلك، أيّها الأحبّة، لم يبق لنا في هذا الشّهر إلا ليالي، فعلينا أن نخلص فيها لله، وندعو فيها دائماً: (اللّهمّ إن كنت رضيت عنّي في هذا الشّهر، فازدد عنّي رضا، وإن لم تكن رضيت عنّي، فمن الآن فارضَ عنّي... اللّهمّ أدِّ عنّا حقّ ما مضى من شهر رمضان، اغفر لنا تقصيرنا فيه، واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين يا أرحم الرّاحمين).