كيف نقرأ تاريخ الأئمة؟ الشيخ علي حسن

المسار التاريخي الممتد للواقع الذي عاشته بعض الكيانات، قوةً أو ضعفاً، غلبةً أو قهراً، ظالمين أو مظلومين، يؤثر في طريقة قراءة أجيالها اللاحقة لذلك التاريخ، إذ عادةً ما يتم إسقاط تلك الحالة على كل الصورة التاريخية، وإن اختلفت في الواقع في أجزائها وتفاصيلها.
وإذ عاش أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في أغلب فترات العهد الإسلامي وضعاً غلب عليه طابع الاضطهاد والمظلومية، فقد أثّر هذا في طريقة قراءتهم لتاريخ آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث أسقطوا رؤيتهم وأحاسيسهم وأمنياتهم وردود أفعالهم على هذه القراءة، ولربما جنحوا أحياناً إلى اعتماد قراءة قاصرة أو تأويلية للأحداث وللشخصيات بما يتواءم مع تلك الرؤى والأحاسيس والرغبات.
القراءة الثورية:
فهناك القراءة الثورية المحضة التي لا ترى في حياة الأئمة عليهم السلام إلا المواجهة الميدانية مع السلطات القائمة، وتحتار في كيفية تبرير سلوك سبعةٍ من الأئمة (ابتداءً من الإمام محمد الباقر وانتهاءً بالإمام الحسن العسكري) الذين لم يشاركوا في أية حركة ثورية، على الرغم من خروج أقرب المقربين إليهم أحياناً.
فالإمام محمد الباقر عليه السلام لم يخرج ثائراً مع أخيه زيد رضوان الله عليه في العهد الأموي، كما أن الإمام الرضا عليه السلام لم يخرج مع عدد من إخوانه (كزيد وإبراهيم وحمزة) وعمه محمد الديباج ابن جعفر الصادق الذين ثاروا على عهد العباسيين، وهكذا لم يخرج الإمام موسى الكاظم عليه السلام من قبل مع الثائرين من آل البيت وعلى رأسهم الحسين الحسني (المعروف بصاحب فخ) على الرغم من عدم معارضته لأسباب ثورتهم.
القراءة المأساوية:
وهناك القراءة المأساوية المحضة التي لا ترى في سيرة أهل البيت عليهم السلام إلا صور المآسي والظلامات والمصائب من اعتقال وسجن وتعذيب وقتل بالسيف وبالسم، وهي لاشك حقائق ووقائع، ولكنها لا تمثل كل الصورة، ولذا تضطر هذه القراءة إلى تجاهل الإنجازات وصور التعامل الإيجابي مع الآخر، وتحتار في تفسير مواقف من قبيل زواج الإمام الرضا عليه السلام بابنة المامون، ثم زواج ابنه محمد الجواد بالابنة الأخرى، وفي اللقاءات التي كانت تجري بين الأئمة وبين بعض حكام زمانهم بما يحيطها أحياناً من حفاوة، وفي الأموال والهبات التي كانت توزَّع من قبلهم عليهم السلام على المحتاجين والفقراء، والممتلكات التي كانوا يديرونها من بساتين وأعمال تجارية وغير ذلك، فكيف يتواءم كل هذا مع الوضع المأساوي كصورة وحيدة يقرؤها أو يقدِّمها البعض لسيرة الأئمة عليهم السلام؟
القراءة السلبية:
وهكذا لا يقدِّم البعض الأئمة عليهم السلام إلا في المشاهد العلمية والعبادية ذات البعد الفردي، وكأنهم كانوا
بعيدين عن الواقع الذي يعيشونه، معزولين عن الأحداث المحيطة بهم، لا شأن لهم بالسياسة والثورة على الظلم، ولا اهتمام لهم بالقضايا العامة.
انعكاسات القراءة الناقصة:
هذه القراءات الناقصة لها سلبية أخرى بجانب السلبية (المعلوماتية) وهي ترتبط بالاستناد عليها كأسس لتكوين الرأي الشرعي أو الموقف العملي تجاه قضايا الحاضر، أو في أسلوب التعاطي مع الأحداث، أو في طريقة تكوين الشخصية الموالية لأهل البيت عليهم السلام.. هل تُبنى على أن تكون ثورية معارِضة مقاتِلة على طول الخط؟ أم تكون شخصية منعزلة منكفئة على البعد العبادي الفردي؟ هل تنطلق في الأطر العلمية والأكاديمية فحسب، وتتغافل عن أي حراك يدور حولها؟ هل تتصالح مع حكومات الزمان أم تتقاطع معها؟ هل تنفتح على الآخر المختلف معها، سواء على المستوى الرسمي أو العلمي أو الشعبي، أم تعيش التقية الدائمة التي تدفع إلى التحصين الذاتي؟
صورة فسيفسائية:
من الواضح أن سيرتهم عليهم السلام متنوعة، بين تجربة حكم للإمامين علي وابنه الحسن، وثورة حسينية، وعطاء علمي وروحي على يد السجاد والباقر والصادق والكاظم، وتجربة ولاية عهد للرضا، ثم الصيرورة تحت الرقابة المباشرة أو ضمن بيت الخلافة العباسية على عهده ثم الجواد فالهادي فالعسكري.
ولذا فإن من يريد أن يعتمد على سيرتهم في بناء رؤية شرعية أو فكرية لابد وأن ينظر إلى كل هذه الصورة الفسيفسائية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سيرة الحسين عليه السلام لم تكن ثورية في كل مراحلها، بل مثَّلت الأشهر القليلة من أواخر حياته المباركة، بينما استمر في مهادنة معاوية إلى أن مات الأخير.. وهكذا فإن سيرة الحسن عليه السلام لم تكن صلحاً محضاً، بل عايش فتنة الخليفة عثمان، ووقف موقف المانع من قتلِه، وخاض مع أبيه حروبَه، وتوجّه بجيشه نحو الشام بعد مقتل علي عليه السلام، إلا أن الظروف لم تعنه على الحرب فجنح للسلم.
إننا ونحن نستهجن موقف بعض أصحاب الحسن عليه السلام منه بعد أن عقد معاهدة الصلح عام 40هـ، ونستغرب الموقف الحدي الصادر من عبدالله بن الحسن بن الإمام الحسن المجتبى تجاه الإمام جعفر الصادق حين رفض الانضمام لتحالفهم مع العباسيين ضد الأمويين، حتى قال له عبدالله: (إنّ الله لم يُطلعك على غيبه، ولم تقل ذلك إلا حسداً لابني)! إننا في نفس هذا الوقت قد نكرر نفس الخطأ الذي وقعوا فيه حين نقرأ الإمام في موقع الحكم فقط، أو في موقع الثورة فقط، أو في موقع العبادة فقط! فلا نرتضي موقفاً لهم، أو نحكم على نص تاريخي مرتبط بسيرتهم بالاستحالة والبطلان، لمجرد مخالفته للصورة القاصرة التي بنيناها في أذهاننا عن سيرتهم، وهذا يعني أننا لو عايشنا عصرهم لوقعنا في نفس المخالفات التي نلوم عليها من عايشهم، لأننا نفصل سيرتهم على المقاسات التي حددناها في أذهاننا من قبل.
انعكاسات خاطئة:
بل وقد نرسم لهم صورة شخصية في أذهاننا منطلقة من شخصياتنا وطبيعة أحاسيسنا وأخلاقياتنا
وتصرفاتنا، فنتصور أن ردود أفعالهم وتصرفاتهم ستكون مشابهة لهذه الصورة أو في سياقها. ولذا يقع البعض في حيرة في فهم حقيقة المصاهرات بينهم وبين الآخرين ممن اختلفوا معهم، بل ولربما رفعوا السيوف في وجوههم.. فقد تزوج الحسن من ابنة الصحابي طلحة، وبعد استشهاده خلفه عليها الحسين، الذي تزوج أيضاً من حفيدة أبي سفيان وهي ليلى أم علي الأكبر، وتزوج الباقر من حفيدة الخليفة أبي بكر، فولدت له الإمام جعفراً الصادق الذي كان يقول كما نقل عنه السنة والشيعة: (ولدني أبوبكر مرتين)، وكأن الإمام يقول إنه جدي، فإن كنتم تحترمونني فلا تسيئوا إلى جدي؟!
كما أسموا أبناءهم بأسماء بعض الخلفاء وبعض الشخصيات التي عاشت النزاع معهم حول موضوع الحكم، فلعلي عليه السلام أبناء منهم عمر، وعثمان، وكنية أحدهم أبو بكر.. وللحسن: عمرو وعبدالرحمن وطلحة وأبوبكر، وللإمام زين العابدين عليه السلام: عمر وعبدالرحمن.. وقد يقول قائل إنها أسماء مشتهرة ومعروفة ولا تشير إلى أحد بعينه، ولكن أقول ما الذي كان يدفعهم إلى اختيار هذه الأسماء مع وفرة الأسماء العربية الأخرى؟
طهارة الروح:
لقد عاش الأئمة عليهم السلام طهارة الروح، فلم يحملوا في قلوبهم حقداً يدفعهم إلى مقاطعة الحاكم والمجتمع ـ سواء على مستوى المصاهرات أو الأسماء أو التواصل الاجتماعي أو المشورة الصادقة أو مد يد العون بما يعود على الأمة بالخير والمنفعة ـ وإن اختلفوا معهم، ولا لصب اللعنات على الأمة، أو الاندفاع لتدمير مكتسبات الأمة من أجل الوصول إلى سدة الحكم، على الرغم من يقينهم وتصريحهم في مناسبات كثيرة بأنهم الأولى من غيرهم بهذا الأمر.
إن الحقيقة التي يجب أن نعرفها أن الأئمة في مواقفهم وعلاقاتهم لم يتحركوا من موقع العاطفة والانفعال، ولا بدافع تحقيق المصالح الشخصية، بل كانت أولويتهم أن يحملوا الأمانة التي حمّلهم إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)، وأن يخدموا الرسالة، وأن يحققوا للأمة مصالحها، مهما جرّ ذلك إليهم من ظلم وجور، وقد قال سيدهم علي عليه السلام: (لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، إلتماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).