خطبة الجمعة 11 رمضان 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : كيف نقرأ سيرة الأئمة ع ؟


ـ عندما نسترجع تبعات صلح الإمام الحسن(ع)، نستهجن ونستغرب موقف بعض أصحابه منه، ومن بينهم أسماء لامعة كحجر بن عدي وعدي بن حاتم.. ولكن يا ترى هل كنا سنختلف عنهم في مثل هذا الموقف؟
ـ المسار التاريخي الممتد للواقع الذي عاشه أتباع مدرسة أهل البيت(ع) في أغلب فترات العهد الإسلامي غلب عليه طابع الاضطهاد والمظلومية، وأثّر هذا في طريقة قراءتهم لتاريخ آل النبي(ص)، بحيث أسقطوا رؤيتهم وأحاسيسهم وأمنياتهم وردود أفعالهم على هذه القراءة، وإن اختلفت تلك الصورة التي كوّنوها عن الواقع في الأجزاء والتفاصيل، ولربما جنحوا أحياناً إلى اعتماد قراءة قاصرة أو تأويلية للأحداث وللشخصيات بما يتواءم مع تلك الرؤى والأحاسيس والرغبات.
ـ فهناك القراءة الثورية المحضة التي لا ترى في حياة الأئمة(ع) إلا المواجهة الميدانية مع السلطات، وتحتار في كيفية تبرير سلوك سبعةٍ من الأئمة (ابتداءً من الإمام محمد الباقر وانتهاءً بالإمام الحسن العسكري) الذين لم يشاركوا في أية حركة ثورية، على الرغم من خروج أقرب المقربين إليهم أحياناً.
ـ كالإمام الباقر(ع) وزيد، والإمام الرضا(ع) وإخوانه زيد وإبراهيم وحمزة وعمه محمد، والإمام الكاظم مع الثائرين من آل البيت كالحسين صاحب فخ على الرغم من عدم معارضته لدوافع ثورته.
ـ وهناك القراءة المأساوية التي لا ترى في سيرة أهل البيت(ع) إلا صور المآسي والظلامات والمصائب من اعتقال وسجن وتعذيب وقتل بالسيف وبالسم، وهي لا شك حقائق ووقائع، ولكنها لا تمثل كل الصورة.
ـ ولذا تضطر هذه القراءة إلى تجاهل الإنجازات وصور التعامل الإيجابي مع الآخر، وتحتار في تفسير مواقف من قبيل زواج الإمام الرضا(ع) بابنة المامون، ثم زواج ابنه محمد الجواد بالابنة الأخرى، وفي اللقاءات التي كانت تجري بين الأئمة وبين بعض حكام زمانهم بما يحيطها أحياناً من حفاوة، وفي الأموال والهبات التي كانت توزَّع من قبلهم(ع) على المحتاجين والفقراء، والممتلكات التي كانوا يديرونها، إذ كيف يتواءم كل هذا مع الوضع المأساوي كصورة وحيدة يقرؤها أو يقدِّمها البعض لسيرة الأئمة؟
ـ وهكذا لا يقدِّم البعض الأئمة إلا في المشاهد العلمية والعبادية، وكأنهم كانوا بعيدين عن الواقع، معزولين عن الأحداث المحيطة بهم، لا شأن لهم بالسياسة والثورة على الظلم، ولا اهتمام لهم بالقضايا العامة.
ـ هذه القراءات الناقصة لها عدة سلبيات، بالإضافة إلى الخطأ المعرفي المعلوماتي، ومنها:
1ـ الاستناد القاصر عليها كأسس لتكوين الرأي الشرعي أو الموقف العملي تجاه قضايا الحاضر.
2ـ الاستناد القاصر عليها في طريقة تكوين الشخصية الموالية لأهل البيت.
ـ هل تكون ثورية معارِضة مقاتِلة على طول الخط؟ أم منعزلة منكفئة على البعد العبادي؟
ـ هل تنطلق في الأطر العلمية والأكاديمية فحسب، وتتغافل عن أي حراك يدور حولها؟
ـ هل تتصالح مع حكومات الزمان أم تتقاطع معها؟
ـ هل تتعامل بشفافية مع الآخر المختلف معها، سواء على المستوى الرسمي أو العلمي أو الشعبي، أم تعيش التقية الدائمة التي تدفع إلى التحصين الذاتي؟
ـ من الواضح أن سيرتهم(ع) متنوعة، بين تجربة حكم لعلي والحسن، وثورة حسينية، وعطاء علمي وروحي على يد السجاد والباقر والصادق والكاظم، وتجربة ولاية عهد للرضا، ثم الصيرورة تحت الرقابة المباشرة أو ضمن بيت الخلافة العباسية على عهده ثم الجواد فالهادي فالعسكري.
ـ ولذا فإن من يريد أن يعتمد على سيرتهم في بناء رؤية شرعية أو فكرية لابد وأن ينظر إلى كل هذه الصورة الفسيفسائية، بل وتنوع سيرة الواحد منهم، كالحسين(ع) حيث لم تكن ثورية في كل مراحلها، بل مثَّلت الأشهر القليلة من أواخر حياته، بينما استمر في مهادنة معاوية إلى أن مات الأخير.. و سيرة الحسن لم تكن صلحاً محضاً، بل عايش فتنة الخليفة عثمان، ووقف موقف المانع من قتلِه، وخاض مع أبيه حروبَه، وتوجّه بجيشه نحو الشام بعد مقتل علي(ع)، إلا أن الظروف لم تعنه على الحرب فجنح للسلم.
ـ ومن هنا أقول أننا قد نكرر نفس الخطأ الذي وقع فيه أصحاب الحسن(ع) حين نقرأ الإمام في موقع الحكم فقط، أو في موقع الثورة فقط، أو في موقع العبادة فقط، فلا نرتضي موقفاً لهم، أو نحكم على نص بالبطلان، لمخالفته للصورة التي بنيناها في أذهاننا.. وهذا يعني أننا لو عايشنا عصرهم لوقعنا في نفس المخالفات التي نلوم عليها من عايشهم، لأننا نفصّل سيرتهم على المقاسات التي حددناها في أذهاننا من قبل.
ـ بل وقد نرسم لهم صورة شخصية في أذهاننا منطلقة من شخصياتنا وطبيعة أحاسيسنا وأخلاقياتنا وتصرفاتنا، فنتصور أن ردود أفعالهم وتصرفاتهم ستكون مشابهة لهذه الصورة أو في سياقها.
ـ ولذا يقع البعض في حيرة في فهم حقيقة المصاهرات بينهم وبين الآخرين ممن اختلفوا معهم، بل ولربما رفعوا السيوف في وجوههم.. فقد تزوج الحسن من ابنة الصحابي طلحة، وبعد استشهاده خلفه عليها الحسين، الذي تزوج أيضاً من حفيدة أبي سفيان وهي ليلى أم علي الأكبر، وتزوج الباقر من حفيدة الخليفة أبي بكر، فولدت له الإمام الصادق الذي كان يقول كما نقل عنه السنة والشيعة: (ولدني أبوبكر مرتين)، وكأن الإمام يقول إنه جدي، فإن كنتم تحترمونني فلا تسيئوا إلى جدي؟!
ـ كما أسموا أبناءهم بأسماء بعض الخلفاء وبعض الشخصيات التي عاشت النزاع معهم حول موضوع الحكم، فلعلي(ع) أبناء منهم عمر، وعثمان، وكنية أحدهم أبو بكر.. وللحسن: عمر وعبدالرحمن وطلحة
وأبوبكر، وللإمام زين العابدين: عمر وعبدالرحمن.
ـ وقد يقول قائل إنها أسماء مشتهرة ومعروفة ولا تشير إلى أحد بعينه، ولكن أقول ما الذي كان يدفعهم إلى اختيار هذه الأسماء مع وفرة الأسماء العربية الأخرى؟
ـ لقد عاش الأئمة(ع) طهارة الروح، فلم يحملوا في قلوبهم حقداً يدفعهم إلى مقاطعة الحاكم والمجتمع، سواء على مستوى المصاهرات أو الأسماء أو التواصل الاجتماعي أو المشورة الصادقة أو مد يد العون بما يعود على الأمة بالخير والمنفعة، وإن اختلفوا معهم، ولا حقداً يدفعهم لصب اللعنات على الأمة، أو الاندفاع لتدمير مكتسباتها من أجل الوصول إلى سدة الحكم، على الرغم من يقينهم وتصريحهم في مناسبات كثيرة بأنهم الأولى من غيرهم بهذا الأمر. إن الحقيقة التي يجب أن نعرفها أن الأئمة في مواقفهم وعلاقاتهم لم يتحركوا من موقع العاطفة والانفعال، ولا بدافع تحقيق المصالح الشخصية، بل كانت أولويتهم أن يحملوا الأمانة التي حمّلهم إياها رسول الله(ص) حيث قال: (إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)، وأن يخدموا الرسالة، وأن يحققوا للأمة مصالحها، مهما جرّ ذلك إليهم من ظلم وجور وقد قال سيدهم علي(ع): (لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، إلتماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).