يسألونك عن الأهلة - الشيخ علي حسن

مع دخول شهر رمضان المبارك في كل عام، يعود الحديث عن توحيد بداية الشهر عند المسلمين عموماً، بل في البلد الواحد، بل بين أتباع المذهب الواحد. وبدايةً لابد أن نعلم أن هذا الاختلاف بين المسلمين، بل بين أتباع المذهب الواحد ليس بالأمر الجديد، والأسباب مختلفة، ومنها:
رمضان لا ينقص أبداً:
الاختلاف في جواز كون شهر رمضان 29 يوماً، فقد ابتدع البعض رأياً مفاده أن شهر شعبان لا يتم أبداً، وشهر رمضان لا ينقص أبداً، ووضعوا الحديث على لسان أهل البيت عليهم السلام، وأثيرت مشكلة كبيرة آنذاك في هذا الإطار انعكست من خلال بعض الروايات.. وقد طرح الفقهاء هذه المسألة في بحوثهم، ومثال ذلك السؤال الذي وجِّه للشريف المرتضى (ت406هـ) كما في رسائله: (عن شعبان وشهر رمضان هل تلحقهما الزيادة والنقصان؟ فيكون أحدهما تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين، وعمن قال: إن الزيادة والنقصان تلحقهما وسائر الشهور، هل يصير كافراً بذلك أم لا؟). فأجاب: (شهرُ رمضان كغيره من الشهور في أنه يجوز أن يكون تاماً وناقصاً، ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلا شذاذ، خالفوا الأصول وقلّدوا قوماً من الغلاة، تمسكوا بأخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام غير صحيحة ولا معتمَدة ولا ثابتة).
عدم دقة الشهادة:
الاختلاف في دقة التعاطي مع شهادة الشهود وترتيب الأثر على ذلك، وهذا ما نبّه عليه الإمام الصادق عليه السلام في حديث صحيح سنداً رواه عنه أبو أيوب الخزاز قال: (قلت: كم يجزي في رؤية الهلال؟ فقال: إن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علة قُبِلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر).
ومن طرائف ما يُذكر في هذا الباب ما رواه ابن خلّكان في (وفيات الأعيان) أنه: (تراءى هلال شهر رمضان جماعة، فيهم أنس بن مالك وقد قارب المائة، فقال أنس: قد رأيته، هو ذاك، وجعل يشير إليه فلا يرونه. ونظر إياس إلى أنس وإذا شعرة من حاجبه قد انثنت فمسحها إياس وسواها بحاجبه ثم قال له: يا أبا حمزة، أرنا موضع الهلال. فجعل ينظر ويقول ما أراه).
أسباب الاختلاف:
وإذا أردنا أن نستقصي أسباب الاختلاف الحاصل في ذلك، فسنجد أن في البين عوامل عديدة، منها ما هو علمي فقهي، ومنها ما هو سياسي، بل ومنها ما هو شخصي أحياناً أخرى، وسأقتصر على البعد العلمي فقط لأبيّن بعضاً من أهم الاختلافات الفقهية بين المذاهب الإسلامية من جهة، وبين فقهاء المذهب الواحد من جهة أخرى، ليتضح لنا ما وراء هذا الانقسام. ومن أهم العوامل العلمية الفقهية:
الشهر الطبيعي أم الشرعي؟
الاختلاف في كفاية اعتماد (الشهر القمري الطبيعي)، فالشهر القمري يبدأ طبيعياً من حين ولادة الهلال وذلك عندما يغيب قرص القمر في الظل ما بين الشمس والأرض، وعندها يكون محاقاً لا ينعكس منه ضوء الشمس. توقيت الولادة يُعرف بالدقة بالحسابات الفلكية لمئات الأعوام القادمة والماضية شهراً بشهر. فمن فقهاء المسلمين من يرى كفاية تحقق هذه الولادة لكي نقول ببدء الشهر في اليوم التالي منه، ولكل الكرة الأرضية. بينما يشترط فقهاء آخرون تحقق (الشهر القمري الشرعي)، أي لابد من مرور فترة زمنية كافية يكتسب خلالها القمر كمية من الضوء تكون كافية لكي تُشاهَد على الأرض بصورة هلال.
الحسابات العلمية:
يفتي بعض الفقهاء بكفاية الحسابات الفلكية والفيزيائية الدقيقة لتحديد بداية الشهر القمري بشرط أن تؤدي إلى تحديد الولادة الطبيعية علاوة على إمكانية الرؤية بالعين، وإن لم يُر فعلاً بسبب العوامل الجوية أو التلوث أو عدم الاستهلال وغير ذلك. ويقولون بأن الروايات الناهية عن اعتماد الحسابات إنما تتحدث عن الحسابات التي لا تورث علماً، كما كان عليه الحال في ذلك الزمان، وهذا ما نلاحظه في الرواية التالية: (كتب إليه أبوعمر: أخبِرْني يا مولاي إنه ربما أشكل علينا هلال رمضان، فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قومٌ من الحُسَّاب قِبَلِنا إنه يُرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقية والأندلس. هل يجوز يا مولاي ما قال الحُسّاب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومُهم خلافَ صومنا وفطرُهم خلافَ فطرنا؟ فوقّع: لا صومَ من الشك، أفطِر لرؤيته وصم لرؤيته). وفي المقابل يشترط فقهاء آخرون حصول الرؤية بالعين، وعدم الاكتفاء بالنتائج العلمية مهما كانت دقيقة.
الاعتماد على الأجهزة:
يفتي بعض الفقهاء بكفاية الرؤية بالأجهزة المقرِّبة كالتلسكوب وإن لم يُر الهلال بالعين المجردة، بينما يخالفهم آخرون فيشترطون الرؤية بالعين المجردة.
وحدة الأفق أم الآفاق؟
يفتي بعض الفقهاء بكفاية الرؤية الثابتة في أي مكان على وجه الأرض للقول ببدء الشهر لكل الكرة الأرضية، بينما يشترط آخرون أن تكون الرؤية ضمن دائرة المناطق التي تشترك في الليل فقط، ويذهب فريق ثالث إلى اشتراط الرؤية المحلية أو في المناطق ذات الأفق الواحد. وعلى الرايين الأخيرين فإن توحيد المسلمين على يوم واحد في العالم أجمع لن يتحقق حتى في دولة المهدي المنتظر عليه السلام في آخر الزمان.
العلم في مقابل الشهادة:
كما يفتي بعض الفقهاء برد شهادة الشهود إذا كانت متعارضة مع المعطيات العلمية الدقيقة، فلو توصلنا علمياً إلى استحالة رؤية الهلال لأنه لم يولد مثلاً، أو يغيب قبل الشمس، وشهد البعض بالرؤية بعد المغيب، فإن شهادتهم تُرد، وإن كانوا عدولاً ومهما كان عددهم كبيراً.
تفهّم واحترام:
وهناك عوامل علمية أخرى تؤثِّر في فتوى الفقيه في البين، ولذا فما دامت هذه الاختلافات موجودة فمن غير الممكن أن يتحقق توحيد مقلدي الفقهاء المختلفين، فضلاً عن توحيد المسلمين جميعاً، ومن الضروري التعامل مع هذا الموضوع بصورة علمية، وبعيداً عن العاطفة والتشنجات.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن يعذر الناس بعضهم البعض في ما اختلفوا فيه من هذا الأمر، في المجتمع الواحد، وفي البيت الواحد، فالمسألة في غايتها تكليف شخصي، يعمل من خلالها كلٌّ وفق ما يتناسب وتكليفه وبما يرضي الله سبحانه.