عمه.... مقال للشيخ علي حسن غلوم

يمكن تعريف البصيرة على أنها امتلاك رؤية واضحة وثاقبة يقيّم الإنسان من خلالها الأمور بشكل سليم، ولذا من جملة تعريفاتها في كتاب (لسان العرب) أنها: الفطنة، العبرة، الفهم. ويقابلها (العمَه)، كما أن العمى يقابل البصر.
وتتحقق البصيرة من عدة مصادر من بينها: العقل والعلم وتجارب الحياة وتزكية النفس، وهي من جملة الأمور التي سعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحقيقها من خلال التزكية والتعليم والتربية (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)، ومن امتلك البصيرة امتلك خيراً كثيراً.
أسباب العمه: فلنستعرض النصوص التالية للتعرف على بعض أسباب العمه:
1. (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110) 2. (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23)
3. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72) 4. (ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال وسكرِ القدرة وسكرِ العلم وسكرِ المدح وسكرِ الشباب، فإن لكلٍ رياحاً خبيثة تسلب العقل وتستخف الوقار).. الإمام علي عليه السلام، والتعبير بالرياح كناية عن التأثير.
5. (سكرُ الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكرِ الخمور) الإمام علي عليه السلام.
6. (واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة اللباب) الإمام علي عليه السلام.
7. (الغضب ممحقة القلب الحكيم) الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
جمع النصوص:
مما سبق يتضح أن الطغيان وتجاوز الحد في المعصية أو في ظلم الناس أو في الاستكبار على الخلق، واتباع الهوى، وسكرة القدرة والغنى والقوة، ثم الغرور والعجب والغضب كلها تقف وراء حالة العمه التي تصيب البعض. قال المرحوم الشيخ هادي آل كاشف الغطاء مخاطباً حفيده:
كم من فتى أعمى بصيرتَه الهوى * لم يُجْـدِ فيه النصح والتحذير
غرته دنيا لا يدوم نعيمُها * ويُغَـرُّ فيها الجاهل المغرور
لا خير في عيش يعيش به الفتى * كالعبد وهو مقيَّـد مأسور
العمه العالمي:
وقد يقع على الفرد المصاب بالعمه ـ شخصياً ـ الكثير من آثار تخبطاته، إلا أن لك أن تتخيل الآثار المهولة التي ستترتب على العالم بأسره إذا أصيبت دولة عظمى ـ كالولايات المتحدة ـ بالعمه.. وهذا ما حصل خلال السنوات السبع العجاف من عمر الإدارة الأمريكية السابقة.. سبع سنوات من الرعب عاشها العالم مع صراع الحضارات والتقسيم إلى محورين وقرع طبول الحرب والخسائر الكبيرة في الأرواح والأموال..
3 تريليون دولار (وهي تكفي كموازنة لدولة أفريقية متوسطة الحال ولمدة ألف سنة!!) أنفقت على حربي العراق وأفغانستان، فهل كان التخلص من كيان مهترئ في العراق وآخر غر في أفغانستان بحاجة إلى إنفاق كل هذا المبلغ؟! لقد ولّى النظام البعثي إلى الجحيم بلا رجعة، وارتاح العالم من النظام الطالباني المتخلّف الذي شوّه صورة الإسلام، ولكن الفاتورة باهضة التكاليف جداً، وفوق ما تستحقه بكثير.
العمه الاقتصادي:
ولم يختلف الحال كثيراً على المستوى الاقتصادي، فمجموعة القرارات الاقتصادية التي اتخذتها تلك الإدارة أدخلت العالم في أزمة مالية حادة انهارت معها الكثير من الأسواق والبنى الاقتصادية، وقدّر بنك التنمية الآسيوي أن الخسائر المالية الحقيقية للعام2008 بسبب الأزمة الاقتصادية لامست 50 تريليون دولار (وهذا الرقم يساوي كل الإنتاج الاقتصادي العالمي السنوي). ونصيب العرب منها 2.5 تريليون.
البنك الدولي يتوقع أن يكون الناتج الصناعي العالمي بحلول منتصف عام 2009 أقل بنسبة 15 في المائة عما كان عليه عام 2008. أما التجارة العالمية فهي على الطريق في عام 2009 نحو تسجيل أكبر تراجع خلال 80 عاماً، مع وقوع أكبر الخسائر في شرق آسيا.. ووزير السياسة المالية والاقتصاد الياباني قال إن الأزمة الاقتصادية في بلاده هي الأسوأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولذا فإن الإنتخابات الأمريكية الأخيرة لاختيار الرئيس الجديد صوّت فيها العالم بأسره، وليس المواطن الأمريكي فقط، أملاً في وصول إدارة جديدة بعقلية لديها شئ من البصيرة لتلافي بعضاً من آثار تلك السنوات العصيبة.
عمه برلماني:
وأما على المستوى المحلي، ونحن نعيش أجواء انتخابات برلمانية جديدة، فقد شهدنا حالات من العمه أصيب بها بعض المرشحين الذين نجحوا ـ لاسيما من نجح منهم لأول مرة ـ فأصيبوا بسكرة الفوز ونشوة القدرة، فسارعوا إلى القفز على الثوابت وإلغاء كثير من مقوّمات تماسك المجتمع ونهضته، في محاولة للاستئثار بالامتيازات لصالح فئات معينة، وهي ممارسات تعكس ضيق الأفق وفقدان البصيرة في العمل السياسي، مما أدخل البلد في صراعات جديدة وأزمات لا تنتهي، ولا تكاد تتخلص من واحدة حتى تقع في أخرى... كفاية.. ارحموا البلد.. واعملوا للتنمية والتطوير، لا للتخلف والتدمير.

نشر المقال بجريدة الوطن الكويتية بتاريخ 18 إبريل 2009 في صفحة منتقى الجمان