خطبة الجمعة 4 رمضان 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : القرآن بين التفسير والتطبيق


ـ نقع أحياناً في حالة من التشكيك الذاتي، وحالة من الصراع مع الآخر حول قضايا لا تستدعي مثل ذلك، وتكون المشكلة في سوء فهم بسيط يحل المشكلة برمتها.
ـ مثال ذلك: الاستدلال على المسألة المهدوية، بآية: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص:5].
ـ عندما يستمع الشاب الشيعي إلى من ينفي نزول الآية في الإمام المهدي، ويُرجعه إلى مصادر التفسير عندنا كتفسير الشيخ الطوسي والطبرسي، قد ينصدم الشاب وتهتز قناعاته نتيجة خطأ بسيط.
ـ المثبِتون لكون الآية السابقة نازلة في المسألة المهدوية يقولون: إن الله تعالى يخبر فيها عما سيجري في نهاية الزمان، بدليل:
1ـ استعمال كلمات (نريد، نمن، نجعل) بصيغة المضارع لا الماضي.
2ـ استعمال كلمة (الوارثين) وهي تدل على آخر من سيحكم الأرض قبل القيامة، إذن لابد من دولة إسلامية تعم أرجاء الأرض في آخر الزمان، وهي دولة المهدي(ع).
3ـ عن علي(ع): (المستضعفون في الأرض المذكورون في الكتاب، الذين يجعلهم الله أئمة: نحن أهل البيت، يبعث الله مهديَّهم فيعزهم ويذل عدوهم).
ـ وفي المقابل، ينفي آخرون العلاقة، بدليل:
1ـ أنها جاءت في ضمن الحديث عن النبي موسى(ع)، والوعد الإلهي له ولمن ينصره بوراثة أرض مصر وحكمها: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[القصص:3-6].
2ـ وأن الأفعال جاءت بصيغة المضارع لأن الحدث كان مستقبلاً بالنسبة إلى زمن الاستضعاف.
ـ حلُّ هذا الإشكال يكمن في التعرف على أصل من أصول التعامل مع آيات القرآن، نبّه عليه الشهيد السيد محمد باقر الصدر حيث قال: (النقطة الجوهرية في تفسير القرآن الكريم تكمن بضرورة التمييز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم وتفسير المعنى بتجسيده في صورة محددة على صعيد المصاديق)
ـ فالشهيد الصدر ينبِّه إلى نقطة مهمة وحساسة في التعامل مع جملة من الأحاديث التي تتضمن نصاً قرآنياً، على نحو التفسير أو التأويل أو الاستشهاد، قد تسبب في أحيان كثيرة نوعاً من النزاع بين أصحاب الآراء المختلفة، نتيجة الخطأ في التعامل مع تلك النصوص وفهم دلالتها.
ـ وخلاصة تلك النقطة التي تحل التناقض تتمثل في التفريق بين البحث في معنى النص وسبب نزوله، وبين البحث في ما يمكن أن يكون من تطبيقاته الخارجية ولو بعد أزمنة بعيدة.
ـ ويبدو أن هذا هو المعنى المراد في بعض النصوص التي تتحدث عن وجود باطن أو بطون للقرآن، فعن النبي(ص) أنه قال: (إن للقرآن ظهراً وبطناً)، فقد بيّن الإمام الباقر(ع) المراد من ذلك كما روي عنه: (ظهرُه: الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه: الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك).
ـ وهذا يعني أن المراد من بطن الآية انطباقُها على الأحداث المتجددة فيما لو تكررت الشروط أو تشابهت المواقف، لا بمعنى أن الآية نزلت في الأحداث المتجددة وقصدَتها بذاتها.
ـ وهذا البيان يحل الإشكال الواقع بين المستدلين بآية: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) على المسألة المهدوية، وبين الرافضين لهذا الاستدلال، إذ سنقول حينئذ أن الآية نازلة في شأن الصراع بين موسى(ع) وبين فرعون، ولكنها في نفس الوقت منطبقة على المسألة المهدوية، بلحاظ أن الصراع سيكون صراعاً بين الحق والباطل، تماماً كالصراع بين موسى وفرعون.
ـ وستكون خاتمة المطاف أن يرث المهديُّ وأنصارُه الأرض بإقامة دولة العدل بإذن الله تعالى، وقد صح وتواتر عن النبي(ص) قوله في المهدي المنتظر: (يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجَوراً).
ـ وبهذا أيضاً يُحلّ التعارض بين الطرفين حول قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء:105]، حيث استدل بها المؤيدون، معتبرين أن الله تعالى يتحدث في الآية عن وراثة المهدي وأنصاره للأرض وملئها عدلاً وقسطاً، بينما يتمسك الرافضون لهذا الاستدلال بسياق الآيات المحيطة بها، وهو يتضمن حديثاً عن الوراثة في الآخرة.
ـ والحل بسيط وفق القاعدة التي قدمها الشهيد الصدر، وتكمن في القول بانطباق الآية على المسألة المهدوية دون نزولها فيها على وجه التحديد.
ـ إن من الجهل أن نحوِّل المسألة المهدوية التي أراد لها النبي(ص) أن تكون رايةً تجمع كل المسلمين حول غايةٍ رساليةٍ هي تمكين العدل في الأرض، إلى عنوانٍ لصراع آخر بين المذاهب الإسلامية، تتراشق الأطراف من خلالها بالتُّهم، ويُسفِّه بها بعضُهم بعضاً.. إنه الشمس التي ينتظر طلوعَها المسلمون، بل والمستضعَفون في العالم.. فهل سيشك عاقلٌ بالشمس إذا طلعت؟