خطبة الجمعة 19 شعبان 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الاستكبار الديني


ـ عادة ما يتم تناول موضوع الكِبر من زاوية أخلاقية تحاول أن تعالج خللاً في شخصية الإنسان:
1ـ غير الملتزم بتعاليم الدين
2ـ أو الملتزم دينياً ولكنه يعاني من انتفاخ الشخصية لغناه المادي أومقامه الاجتماعي أوانتمائه العرقي إلخ
ـ ولكن هناك نوع خطير جداً من الكِبر قليلاً ما تُُسلَّط عليه الأضواء، وهو الكِبر الديني.. أي حالة الانتفاخ (الفردية أو الجماعية) عند المتديّنين انطلاقاً من الإحساس بارتفاع القيمة الدينية على الآخرين.
ـ وإنما هو خطير جداً لأنه يرتدي رداء الدين والقداسة والارتباط بالسماء، ولأنه يُعطي للأمر بُعداً أخروياً مرتبطاً بالجنة والنار.. الأمر الذي يلبِّس على الناس الحقيقة، ويشرعن لهم انتهاك الحرمات.
ـ أوضح مثال تاريخي على ذلك ما جرى عقب غزوة حنين والطائف، فعن أبي سعيد الخدري قال: (بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [ص] وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ‏.‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[ص]: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ‏.‏ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ‏.‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[ص]: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ).
ـ فهذا الرجل كان يعاني من انتفاخ الشخصية في بعدها التديّني، حتى صار يرى أنه بلغ مبلغاً من التديُّن يفوق به النبي(ص)، فاتهم النبي بالظلم في الوقت الذي يناديه بعنوان (رسول الله)!!
ـ وقد بيّن النبي أن هذا وأصحابه ينطلقون في انحرافهم وبغيهم ثم خروجهم من الدين من منطلق التدين!
ـ وقد دفعهم ذلك لاحقاً إلى تكفير علي(ع) قائلين لمبعوثه عبدالله بن عباس قبيل معركة النهروان: (ويحك يا ابن عباس، كفرتَ بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب).
ـ وقد تحدث القرآن عن مثل هذا المرض الخطير في ضمن حديثه عن اليهود: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران:75].
ـ الذي دفع اليهود لافتراء ذلك هو ما جاء في الآية: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
ـ هذه النظرة الاستعلائية على غيرهم، دفعتهم لتقسيم البشرية إلى يهود وأغيار، ومن ثم إباحة كل تصرّف وحشي تجاههم، وقد بدأ الحاخام الأول في الجيش الصهيوني تعليماته بقوله: (الوحشية مطلوبة مع الأغيار)
ـ وأباحوا لأنفسهم حرق دور الأغيار ومدنهم، ففي سفر يشوع عن اقتحام الإسرائيليين مدينة أريحا: (وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ، وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ
بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا)، ولذا قال الحاخام الأمريكي (مانيس فريدمان): (وقت الحروب، يجب تدمير الأماكن المقدسة للعرب، وهدم منازلهم، وقتل النساء والرجال والأطفال منهم).
ـ الآن تعال معي وتمعّن في منطلقات وسلوكيات التكفيريين من خوارج العصر بماذا يختلفون عن المنطق اليهودي وعن خوارج ذلك الزمان؟ المرض هو ذاته، انتفاخ في الشخصية الفردية أو الجماعية ليتحوّل المصلي الصائم القارئ للقرآن إلى موجود متوحش يمثِّل بجثث خصومه، يلوك أحشاءهم، يقتل الأبرياء بدم بارد ما داموا ليسوا على منهجه، يحرق دورهم، يسرق، يغتصب، يرتكب كل موبقة، لأنهم من (الأغيار)!
ـ استكبار من منطلق ديني! على الرغم من كل التعاليم الإسلامية التي حذّرت من الاستعلاء على الآخرين وقدَّمت إبليس كأوضح نموذج على ذلك.
ـ قال الإمام علي(ع): (فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لاَ يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الاْخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة، فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الاْرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمينَ).
ـ ما جرى في مصر بحق بعض الشيعة هو مثال حي لما ذكرت.. أنتم تعرفون أن منهجي يختلف عما كان يصرّح به الشيخ المعتدى عليه، ولكن هذا شئ، وأن يُعتدى عليه وعلى مَن معه فأمر آخر.
ـ ولو كان قد ارتكب جرماً ما، بل حتى لو كان مرتداً، فهناك شئ اسمه قضاء ومحاكمة واستماع للخصوم وشهود وأدلة وأيمان وحدود تُدرأ بالشبهات، وغير ذلك.. فهل تطبيق الشريعة يعني العودة إلى قانون الغاب؟! واضح أن الأمر كذلك في شريعة هؤلاء الخوارج.
ـ إن العدوان الوحشي الذي وقع في مصر وقبله في دير الزور يمثل حلقة في سلسلة الجرائم التي يرتكبها خوارج العصر من التكفيريين الظَّلاميين في بلاد المسلمين وخارجها، بحق السنة والشيعة، ما داموا بالنسبة إليهم من (الأغيار) فأباحوا ارتكاب كلِّ جريمة بشعة حرّمها الإسلام، مخالفين بذلك تعاليم القرآن وسنة النبي(ص) وسيرة أصحابه، وهم يتبجّحون ليل نهار بالدفاع عنها، في الوقت الذي يخالفونها عياناً جهاراً وفي أوضح مفرداتها كقوله(ص): (إياكم والمُثلة، ولو بالكلب العقور)، وما دفعهم لارتكاب ذلك كله إلا استكبارهم الديني، المعجون بجهلهم المطبِق بشريعة الإسلام، الممزوج بهوسهم الوحشي بالسلطة والحكم، المدفوع سياسياً من أطراف أخرى عالمية وإقليمية ومحلية، لها أجنداتها السياسية أوالحزبية، وتريد من خلالها الحفاظ على مكتسابتها السلطوية أو الامتداد الأفقي لتوسعة مديات حكمها أو نفوذها وقوتها، فأعطت الضوء الأخضر للقوى التكفيرية المعهودة بروحها الوحشية من أجل أن تدمِّر وتذبح وتحرق وتعيث في الأرض فساداً، وما جرى في صيدا لبنان يأتي في ذات السياق، والمنطقة برمّتها مهددة بالانزلاق في مهاوي الاستكبار التكفيري. والعجب العجاب أن تبقى الأمور في دائرة الاستنكار في أحسن الحالات، بل واختار البعض الصمت.. نريد حراكاً فاعلاً على الأرض، يا حكماء الشيعة ومرجعياتهم، ألستم مسؤولين عن الشيعة في كل مكان؟ في سوريا، في لبنان، في مصر، وفي غيرها؟ ألم يحن وقت حراككم بالحوار والتفاهم والضغط من أجل حماية الأبرياء؟ ألا توجد في العالم الإسلامي مرجعيات وعقلاء يمكن الجلوس معهم بشكل جاد وفاعل وعملي من أجل إنقاذ المنطقة من الهاوية التي تنحدر نحوها؟ هل سننتظر إلى أن تقع المزيد من المجازر ثم نوزع المعونات وبقايا الزكوات والأخماس على الناجين من جحيم العدوان التكفيري؟ أيكفي أن ندعو الله بتعجيل الفرج؟ أمِن الحكمة أن نسمح لجهلاء الأمة بمزيد من النفخ في نيران العصبية والتطرف والطائفية؟ أم ننتظر اليوم الذي تصل فيه النيران ـ لا سمح الله ـ إلى أطراف ثيابكم كي تشعروا بحرارة لهيبها؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.