خطبة الجمعة 28 رجب 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : التناجي بالإثم


(لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء:114].
ـ في القرآن الكريم حديث عن النجوى، أي الكلام الذي يدور في السر بين اثنين أو أكثر، من عدة جوانب، من بينها ما جاء في هذه الآية المرتبطة بحادثة سرقة وقعت في المدينة المنورة، واتُّهِم فيها يهودي برئ، وأريد من خلال ذلك أن يُبرَّأ السارق المسلم، وأن تمارَس الضغوط وأساليب الخداع في حق النبي (ص) لينحرف عن الحق ويحكم لصالح مرتكب الجريمة، ضد ذلك اليهودي البرئ.
ـ وكعادة المجتمعات في تعاطيها مع الأحداث الساخنة، تدور الكلمة بين الناس، وغالباً ما تكون غير مسؤولة، أو موجَّهة بالعواطف المشحونة، أو مضخَّمة بالكثير من الإضافات التي لا ترتكز على الحقيقة، الأمر الذي يُخرج القضية عن سياقها الطبيعي وحجمها الحقيقي، ويفتح المجال للخوض في الكثير من الاستنتاجات الخاطئة، ولربما تكبر القضية البسيطة ككرة الثلج فتتحول إلى أداة تدمّر أسس السلم الأهلي، والأمن الاجتماعي.
ـ ولكل ما سبق، فإن الكلمة تكون بصفة النجوى والحديث السري الخاص، الذي لا يجرؤ الإنسان أن يطلقه صراحة، لعدة اعتبارات.. ولذا كانت النجوى في كثير من مواردها مصدر شر.. وخلاف ذلك هو الحالة الاستثنائية، كما في حالات التناجي للإصلاح بين المتخاصمين، أو لمساعدة المحتاج بعيداً عن أعين الناس وأمثال ذلك: (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء:114].
ـ ولما كان من الصعب مراقبة الأحاديث السرية ومعرفة مصدرها الأساسي يتشجع الكثيرون للتناجي في الباطل ويجدون أمامهم فسحة واسعة لذلك، ولذا فقد وجّه القرآن إلى حقيقة يجب أن لا نغفل عنها: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
ـ ولذا كانت التقوى عند الإنسان صمام أمان، يحفظه من الانزلاق في هاوية الغضب الإلهي، كما كان القرآن واضحاً في بيان الضابطة التي تجعل الأحاديث الخاصة مرضية عند الله ومباركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[المجادلة:9]، وهذا يعني أن خوض الناس في الأحاديث الباطلة بتلك الصورة دليل ضعف التقوى وبشكل خطير!
ـ ولربما استهان البعض بالأمر، فهو لا يعدو بالنسبة إليهم سوى نوع من اللهو، أو القتل لوقت الفراغ، ولربما استبطأ البعض العقاب الإلهي في مقابل الدور التخريبي الذي يمارسه في حق المجتمع من خلال تلك الأحاديث السرية الشريرة، فجعله يركن إلى تسويلات النفس والشيطان بإباحة هذا التصرف.
ـ ولذا جاء الخطاب القرآني محذّراً من مغبة تلك الاستهانة، لأن التعرض بالسوء لكرامة المؤمنين، وأعراض الناس، وأمن المجتمع، من الأمور التي تُدخِل الإنسان في دائرة سلوك المنافقين الذين مارسوا هذا الدور على عهد النبي(ص): (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) والذي كان يشجّعهم على التمادي في ذلك: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) أما العاقبة فهي كما قالت الآية في تتمتها: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة:8].
ـ ولا يكتفي القرآن بإدخال المتناجين بالشر في دائرة المنافقين، بل يجعلهم في دائرة المطيعين لتسويلات الشيطان الذي لا يشعر بالراحة إلا وهو يرى الإنسان يسير في طريق الهلكة، والمجتمع الإنساني ينساق نحو التدمير الذاتي لكل مقومات الخير في وجوده: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ولكن هل يملك الشيطان أكثر من الوسوسة؟ وبما أن الإجابة بالنفي، فلذا فإن حيلته محدودة، ويبقى الإنسان هو صاحب الخيار، وهو المسؤول عن فعله: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة:10].
ـ لقد رهن كثيرون حياتهم الدنيا ومصيرهم الأخروي باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في التناجي الآثم، مستهينين بما يقومون به من دور سلبي في البعد السياسي والاجتماعي والأمني والمعرفي، مستغلين ما توفره لهم تلك الوسائل من إمكانية التستر عند الخوض في أعراض الناس، وفضح أسرار البيوت، والتجسس على خصوصيات الآخرين، وبث الإشاعات والأفلام والصور المثيرة للفتنة، ونفخ روح العصبية الجاهلية، وتمكين الطائفية، وتدمير أسس السلم الأهلي والأمن الاجتماعي لمصالح حزبية، أو انسياقاً وراء عصبية جاهلية، فاختاروا بإرادتهم ـ ولو في حالة غفلة ـ أن يدخلوا في دائرة سلوك المنافقين وفي ولاية الشيطان ليواجهوا أمام الله مصيراً مخيفاً.. إن تغيّر وسيلة التناجي بالإثم لا يغيّر من حقيقة أن الإنسان مسؤول أمام الله عن قوله وفعله، ولو تستّر عن الناس، واختفى خلف أقنعة وهمية.. وقد قال عز اسمه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء:36].