خطبة الجمعة 14 رجب 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : التقية بين المسلمين


ـ في الأسبوع الماضي كان الحديث حول علاقة التقية بالباطنية، وإتماماً للموضوع أطرح التساؤل التالي: يقول البعض إشكالاً مفاده: أننا لا نجد حضوراً لنصوص التقية وممارستها في العهد الأول من الخلافة، سواء في الدائرة الموالية لعلي وآله(ع)، أو في الدوائر الأخرى التي اختلفت مع الموقف الفكري أو التشريعي أو السياسي للخلافة الحاكمة.. الأمر الذي يشكك في مشروعية ممارسة التقية داخل الدائرة الإسلامية، ويبقيها محصورة في حالات اضطهاد الكافرين للمسلمين فقط.
ـ والملاحظة صحيحة، ولكن يبدو أن الاستنتاج في غير محله، فمن يقرأ تاريخ تلك الفترة يجد فارقاً كبيراً بين عهد ما بعد استشهاد الإمام علي(ع)، وما قبله.. لا أريد أن أقول أن الصورة كانت وردية، ولكنها بطبيعتها كانت مختلفة.
ـ حوارات كثيرة نقلتها كتب التاريخ في العهد الأول تنقل صوراً عديدة من الخلافات الفكرية والفقهية والسياسية، حتى مع الحكم، ولكنها لا تتحول إلى قرارات بالتهجير الجماعي، وتدمير البيوت، والزج في السجون، والأخذ لمجرد الشبهة وأمثال ذلك مما شهده العهد الأموي فما بعد.
ـ حتى ما جرى لأبي ذر وأمثاله، كانت حالات فردية، لم تستدعِ حضور التقية ممارسةً ونصاً بصورة
واضحة.. بينما بدأ الأمر يأخذ منحنى مختلفاً بتقادم الزمن، حتى غدا الإرهاب الفكري وإرهاب السلطة سمةً واضحةً لتلك الفترة الدامية من تاريخ المسلمين.
ـ والشواهد على ذلك كثيرة، ففي كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البَر الأندلسي عن سعيد بن المسيب قال: (كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن.. فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر.. وروى عبد الرحمن بن أذينة الغنوي عن أبيه أذينة بن مسلمة قال: أتيت عمر بن الخطاب فسألته من أين أعتمر؟ فقال: إيت علياً فسله. فذكر الحديث، وفيه قال عمر: ما أجد لك إلا ما قال علي. وسأل شريح بن هانئ عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت إيت علياً فسله.. أما أنه لأعلم الناس بالسنة). وكان هذا عن قناعة تامة عند أصحاب رسول الله(ص)، ففي نفس المصدر عن ابن عباس قال: (والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العُشر العاشر).
ـ وفي نهج البلاغة أن الخليفة عمر استشار علياً في الخروج لقتال الفرس فنهاه الإمام: (.. فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقَضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه
استرحتم، فيكون ذلك أشد لكَلَبِهم عليك، وطمعهم فيك).
ـ وفي نهج البلاغة أن رجلاً من الخوارج قال عن الإمام علي(ع): (قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال: رويداً، إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) ولم تتحول المسألة إلى عقوبة سجن أو هدم دار أو منع من عطاء من بيت المال.. وهكذا كان الأمر قبيل وقوع حرب النهروان، وفي أجواء الحرب ومحاولات الإمام(ع) الحوارية لإقناع الخوارج بالرجوع عن القتال قال: (إنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا الفيء ما دمتم معنا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا وننتظر فيكم أمر الله).. فأي محل للتقية في مثل هذه الأجواء؟
ـ ولكن عندما تبدّل الحال بعد ذلك، اختلفت الظروف تماماً، ففي (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد حول أحداث سنة 40 للهجرة حول صدور أمر كالتالي: (أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبى تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي(ع)، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي(ع) فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم.. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.. وولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهلُ النسك والصلاح والدين ببغض علي).
ـ هذا التاريخ الدامي المعقََّد حتى على مستوى إبداء الرأي الشرعي على خلاف ما تتبناه السلطة، ورّث ذهنيةً معقدةً في مواجهة المسائل الخلافية.
ـ لقد بات من الصعب اليوم أن يفكّر عالمٌ على مذهب أهل السنة أن يختار رأياً في العقيدة أو في الشريعة أو في التاريخ من بين آراء الشيعة، والعكس صحيح في الدائرة الشيعية، ومن تجرأ اعتُبر منحرفاً عن خط التسنن أو خط التشيع، وخارج دائرة الثقة العلمية في النطاق المذهبي.
ـ ولو اطَّلع أحدهم على نصٍّ يؤكد رأي الفريق الآخر، فإنه يضطر ـ لا شعورياً ـ إلى الطعن في سنده أو في دلالته مهما كانت عناصر الطعن ضعيفةً.. أو قد يلجأ إلى التقية بين جماعته!
ـ لقد هذه الحالة خلقت نوعاً من الخوف أو التردد في الدخول في جدلٍ فكريّ موضوعي حول القضايا المختَلف فيها.. لذا فإن من الضروري أن يسعى أصحاب العقول من العلماء والمفكرين لدراسة التجربة الإسلامية الأولى لمعرفة كيفية التعاطي مع الواقع المعقد، انطلاقاً من النص، وكيفية ترجمته على أرض الواقع. وباعتقادي أن تجربة الإمام علي(ع) في طريقة مواجهته للواقع الذي واجهه بعد وفاة النبي(ص) في مسألة الخلافة، وفي الواقع المعقد الذي واجهه مع خصومه أبان حكمه، تمثّل تجربة غنية في هذا الإطار.