الإمام الباقر بين التقية والباطنية - الشيخ علي حسن

أثناء لقائي بأحد الباحثين في الشأن الشيعي لفت نظري إلى مسألة تتعلق بتاريخ الشيعة الإمامية، فنحن نعلم أن لعنوان التقية حضوراً في جملة العناوين التي تُثار حول التشيع بشكل عام، وحول الإمامية بشكل خاص.
ليست شأناً شيعياً:
وهذا الموضوع يُبحث تارة من حيث رد الشبهات، من خلال طرح تساؤلات من قبيل: هل كانت التقيّة شأناً شيعياً خاصاً، ونابعة من ذاتية فكرية جديدة على التفكير الإسلامي، أو بعيدة عن المنطلقات الإسلامية العامة؟
ليأتي الجواب بعد ذلك مؤكداً أن المسألة خاضعة لظروف معينة ضاغطة بشكل رهيب عاشها آل علي عليه السلام وأتباعهم، اضطروا معها في بعض الأحايين إلى ممارسة عُقلائية في بعدها الإنساني، وشرعية في بعدها الإسلامي، كما تجلّت في البعدين من خلال ما أقدم عليه عمار بن ياسر وهو تحت التعذيب في العهد المكي تلقائياً وبإيحاء من عقله، لتنزل الآية الكريمة: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل:105-106].
ويكفيك أن تعود لكتاب (مقاتل الطالبيين) للأصفهاني مثلاً، لتعرف نموذجاً من نماذج إرهاب السلطة الذي مورس تجاه آل علي وشيعتهم، الأمر الذي جعلهم التقية وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، وارتبط بالتالي بهم أكثر من أن يرتبط بسواهم ممن لم يعيشوا مثل هذه الاضطهاد.. ولا أريد الاستغراق أكثر في هذه الشبهة لأنها ليست محور الحديث.
التقية والباطنية:
الشبهة الثانية التي تثار أيضاً في طول الحديث عن التقية هي تلك المتعلقة بعنوان (الباطنية)، بمعنى أن الإنسان يمتنع عن إظهار معتقداته ومتبنياته الفكرية وحتى التشريعية الخاصة، ويُحتفظ بها دائماً في إطار المؤمنين بتلك المبادئ. بل قد يتم اللجوء إلى إخفائها عن الأتباع ما لم يبلغوا سناً محددة، أو بأن يأخذوا على أنفسهم عهوداً معينة بالامتناع عن الإفصاح عنها ممن لا ينتمون إلى ذات الدائرة المذهبية.
هذه الصورة قد نجدها عند الإسماعيليين مثلاً، أو عند الدروز، وهم الذين انشقوا عن الإسماعيليين في الأساس، وكذلك عند العلويين.. ولكننا لا نجدها عند الإمامية حتماً، فكتب الإمامية وخطاباتهم وبحوثهم ومساجدهم وحسينياتهم مفتوحة للجميع، ولا يعيشون أية حالة باطنية.
لماذا الإمامية مستثناة؟
وهذه هي المسألة التي تحتاج إلى تأمل.. فما الذي جعل التشيع الإمامي ينطلق بقوة ووضوح وبعيداً عن الحالة الباطنية طوال التاريخ على الرغم من كل الظروف القاهرة التي لازمته، وفرضت اللجوء إلى التقية من حين لآخر؟
فلعل من الطبيعي لمن عاش كل تلك الظلامات عبر التاريخ أن يتحول لحالة مشابهة لما عليه الدروز أو الإسماعيليون، علماً بأن ما لاقاه الإمامية في بعض الظروف لا يقل قساوة عما لاقاه أولئك من اضطهاد.
الانطلاق بقوة ووضوح:
ولعل الجواب قد اتضح من خلال البيان السابق، إذ أنه على الرغم من كون التقية في تعاليم أهل البيت عليهم السلام حالة مثبتة وحاضرة، إلا أنها تبقى حالة استثنائية اضطرارية، أما الأصل فهو الانطلاق بكل قوة ووضوح وشفافية من أجل نشر الجوانب الفكرية والشرعية والمعرفية التي تتبناها هذه المدرسة في ضوء ما ورثته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرآن وسنة، وتحقيقاً للوصية النبوية العظيمة: (إني تارك فيكم ‏ ‏الثقلين‏، ‏أحدُهما أكبر من الآخر، كتابَ الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض‏، ‏وعترتي ‏ ‏أهلَ بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
ولذا نجد الإمام محمد الباقر عليه السلام ينطلق بكل قوة في إطار نشر التعاليم بشفافية عندما سنحت له الفرصة فأكمل بذلك ما أسسه والده الإمام زين العابدين عليه السلام في الفترة التي لحقت استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، ثم جاء الابن وهو الإمام جعفر الصادق عليه السلام ليتوّج تلك الجهود بمدرسته العظيمة في المدينة المنورة وفي الكوفة، حتى قال الحسن الوشاء عند مروره بمسجد الكوفة: (أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلهم يقول حدثني جعفر بن محمد) وفيهم من يؤمن بالإمامة بالنص كما يقول بذلك الشيعة الإمامية، وفيهم من يعتقد بغير ذلك، بل وتلقى العلمَ منه بعضٌ من أئمة المذاهب الإسلامية المشهورة كما لا يخفى.
ويأتي هذا في ذات الوقت الذي نجد فيه الإمام الباقر عليه السلام بنفسه يؤكد على مسألة التقية حيث قال: (التقية في كل ضرورة، وصاحبُها أعلم بها حين تنزل به). ولعلنا نفهم الفقرة الأخيرة من خلال رواية عبدالله بن عطاء قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرءا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فبرئ واحد وأبى الآخر، فخُلّي سبيل الذي برى‏ء وقتل الآخر، فقال: أمّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأمّا الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنة). هذه الصورة هي التي التزمها أيضاً علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ممن عاصروهم، وممن جاءوا في عهد الغيبة في العقد الثالث من القرن الهجري الرابع فما بعد وإلى يومنا هذا اتباعاً لتعاليم القرآن وأسوة بمنهج النبي وآله عليهم السلام.
عامل آخر:
وأتصور أن هناك عاملاً آخر في البين، يتمثل في الحجم الكبير من الحث الوارد من قبل أهل البيت عليهم السلام بضرورة عدم الانعزال عن المجتمع الإسلامي الكبير، حتى في الظروف القاهرة والتي وصلت أحياناً إلى صورة وحشية من الاضطهاد. فعن عبد الله بن زياد: (سلمنا على أبي عبد الله عليه السلام بمنى ثم قلت: يا بن رسول الله، إنا قوم مجتازون، لسنا نطيق هذا المجلس منك كلما أردناه، فأوصنا. قال: عليكم بتقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الصحبة لمن صحبكم، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واتّبعوا جنائزهم، فإن أبي حدثني أن شيعتنا أهل البيت كانوا خيارَ من كانوا منهم، إن كان فقيهٌ كان منهم، وإن كان مؤذّن فهو منهم، وإن كان إمامٌ كان منهم، وإن كان صاحبُ أمانة كان منهم، وإن كان صاحبُ وديعة كان منهم، وكذلك كونوا. أحبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم).
لقد تعلمنا في مدرسة الإسلام أن التقية وليدة الظروف، وليست حالة أصيلة، وهي تنتهي بانتهاء الأوضاع الصعبة التي تفرضها على الناس، ليبدأ الواقع بعد ذلك يتخذ لنفسه مساراً متجدداً في أجواء الحريات التي تتيح لكل صاحب فكر من أتباع مدرسة آل البيت عليهم السلام أن يطرح فكره بالساحة،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجود التقية يوجب محاكمة أولئك الذين يفرضون حالة الاضطهاد بأبشع صوره، لا أولئك الذين ينكفئون على أنفسهم هرباً من بشاعة الاضطهاد والقتل والسجون. وتأتي جدلية العلاقة بين التقية وبين مواجهة الباطل في أبعاده الدينية والسياسية ومسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتمثل قضية مهمة تحتاج إلى معالجة، وهو ما أوكله إلى مناسبة أخرى بإن الله تعالى.