خطبة الجمعة 7 رجب 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الإمام الباقر بين التقية والباطنية


ـ أثناء لقائي بأحد الباحثين في الشأن الشيعي لفت نظري إلى مسألة تتعلق بتاريخ الشيعة الإمامية.
ـ نحن نعلم أن لعنوان التقية حضوراً في جملة العناوين التي تُثار حول التشيع بشكل عام، وحول الإمامية بشكل خاص.
ـ وهذا الموضوع يبحث تارة من حيث رد الشبهات، من قبيل: (هل كانت التقيّة شأناً شيعياً خاصاً، ونابعة من ذاتية فكرية جديدة على التفكير الإسلامي، أو بعيدة عن المنطلقات الإسلامية العامة؟).
ـ ليأتي الجواب بعد ذلك مؤكداً أن المسألة خاضعة لظروف معينة ضاغطة بشكل رهيب عاشها آل علي(ع) وأتباعهم، اضطروا معها في بعض الأحايين إلى ممارسة عُقلائية في بعدها الإنساني، وشرعية في بعدها الإسلامي.
ـ وقد تجلّت التقية في البعدين العقلائي والتشريعي من خلال ما أقدم عليه عمار بن ياسر وهو تحت التعذيب في العهد المكي تلقائياً وبإيحاء من عقله، لتنزل الآية الكريمة: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل:105-106].
ـ ويكفيك أن تعود لكتاب (مقاتل الطالبيين) للأصفهاني مثلاً، لتعرف نموذجاً من نماذج إرهاب السلطة الذي مورس تجاه آل علي وشيعتهم، الأمر الذي جعل التقية بالنسبة إليهم وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، وارتبط بالتالي بهم أكثر من أن يرتبط بسواهم ممن لم يعيشوا مثل هذه الاضطهاد.
ـ الشبهة الثانية حول التقية هي تلك المتعلقة بعنوان (الباطنية)، بمعنى أن الإنسان يمتنع عن إظهار معتقداته ومتبنياته الفكرية وحتى التشريعية الخاصة، ويُحتفظ بها دائماً في إطار المؤمنين بها.
ـ بل قد يتم اللجوء إلى إخفائها عن الأتباع ما لم يبلغوا سناً محددة، أو بأن يأخذوا على أنفسهم عهوداً معينة بالامتناع عن الإفصاح عنها ممن لا ينتمون إلى ذات الدائرة المذهبية.
ـ هذه الصورة قد نجدها عند الإسماعيليين مثلاً، أو عند الدروز، وهم الذين انشقوا عن الإسماعيليين في الأساس، وكذلك عند العلويين.. ولكننا لا نجدها عند الإمامية حتماً، فكتب الإمامية وخطاباتهم وبحوثهم ومساجدهم وحسينياتهم مفتوحة للجميع، ولا يعيشون أية حالة باطنية.
ـ فما الذي جعل التشيع الإمامي ينطلق بقوة ووضوح وبعيداً عن الحالة الباطنية طوال التاريخ على الرغم من كل الظروف القاهرة التي لازمته، وفرضت اللجوء إلى التقية من حين لآخر؟
ـ لعل من الطبيعي لمن عاش كل تلك الظلامات عبر التاريخ أن يتحول لحالة مشابهة لما عليه الدروز أو الإسماعيليون، علماً بأن ما لاقاه الإمامية في بعض الظروف لا يقل قساوة عما لاقاه أولئك من اضطهاد.
ـ لعل الجواب قد اتضح من خلال البيان السابق، إذ أنه على الرغم من كون التقية في تعاليم أهل البيت حالة مثبتة وحاضرة، إلا أنها تبقى حالة استثنائية اضطرارية، أما الأصل فهو الانطلاق بكل قوة ووضوح وشفافية من أجل نشر الجوانب الفكرية والشرعية والمعرفية التي تتبناها هذه المدرسة في ضوء ما ورثته عن رسول الله(ص) من قرآن وسنة، وتحقيقاً للوصية النبوية العظيمة: (إني تارك فيكم ‏ ‏الثقلين‏، ‏أحدُهما أكبر من الآخر، كتابَ الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض‏، ‏وعترتي ‏ ‏أهلَ بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
ـ ولذا نجد الإمام الباقر(ع) ينطلق بكل قوة في إطار نشر التعاليم بشفافية عندما سنحت له الفرصة فأكمل بذلك ما أسسه والده الإمام زين العابدين(ع) في الفترة التي لحقت استشهاد الإمام الحسين(ع)، ثم جاء الصادق(ع) ليتوّج تلك الجهود بمدرسته العظيمة في المدينة المنورة وفي الكوفة، حتى قال الحسن الوشاء عند مروره بمسجد الكوفة: (أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلهم يقول حدثني جعفر بن محمد) وفيهم من يؤمن بالإمامة بالنص كما يقول بذلك الشيعة الإمامية، وفيهم من يعتقد بغير ذلك، بل وتلقى العلمَ منه بعضٌ من أئمة المذاهب الإسلامية المعاصرة والمندثرة كما لا يخفى.
ـ ويأتي هذا في ذات الوقت الذي نجد فيه الإمام الباقر(ع) بنفسه يؤكد على مسألة التقية حيث قال: (التقية في كل ضرورة، وصاحبُها أعلم بها حين تنزل به). ولعلنا نفهم الفقرة الأخيرة من خلال رواية عبدالله بن عطاء قال: (قلت لأبي جعفر(ع): رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرءا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، فبرئ واحدٌ وأبى الآخر، فخُلّي سبيل الذي برى‏ء وقتل الآخر، فقال: أمّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأمّا الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنة).
ـ هذه الصورة هي التي التزمها أيضاً علماء مدرسة أهل البيت(ع) ممن عاصروهم، وممن جاءوا في عهد الغيبة فما بعد وإلى يومنا هذا اتباعاً لتعاليم القرآن وأسوة بمنهج النبي وآله(ع).
ـ وأتصور أن هناك عاملاً آخر في البين، يتمثل في الحجم الكبير من الحث الوارد من قبل أهل البيت بضرورة عدم الانعزال عن المجتمع الإسلامي الكبير، حتى في الظروف القاهرة والتي وصلت أحياناً إلى صورة وحشية من الاضطهاد.
ـ فعن عبد الله بن زياد: (سلمنا على أبي عبد الله(ع) بمنى ثم قلت: يا بن رسول الله، إنا قوم مجتازون لسنا نطيق هذا المجلس منك كلما أردناه، فأوصنا. قال: عليكم بتقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الصحبة لمن صحبكم، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واتّبعوا جنائزهم، فإن أبي حدثني أن شيعتنا أهل البيت كانوا خيارَ من كانوا منهم، إن كان فقيهٌ كان منهم، وإن كان مؤذّن فهو منهم، وإن كان إمامٌ كان منهم، وإن كان صاحبُ أمانة كان منهم، وإن كان صاحبُ وديعة كان منهم، وكذلك كونوا. أحبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم).
ـ لقد تعلمنا في مدرسة الإسلام أن التقية وليدة الظروف، وليست حالة أصيلة، وهي تنتهي بانتهاء الأوضاع الصعبة التي تفرضها على الناس، ليبدأ الواقع بعد ذلك يتخذ لنفسه مساراً متجدداً في أجواء الحريات التي تتيح لكل صاحب فكر من أتباع مدرسة آل البيت(ع) أن يطرح فكره بالساحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجود التقية يوجب محاكمة أولئك الذين يفرضون حالة الاضطهاد بأبشع صوره، لا أولئك الذين ينكفئون على أنفسهم هرباً من بشاعة الاضطهاد والقتل والسجون. وتأتي جدلية العلاقة بين التقية وبين مواجهة الباطل في أبعاده الدينية والسياسية ومسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتمثل قضية مهمة تحتاج إلى معالجة، وهو ما أوكله إلى مناسبة أخرى بإذن الله تعالى.