تسبيح الزهراء عليها السلام - الشيخ علي حسن

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن علي عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد: (ألا أحدِّثُك عني وعن فاطمة؟) وكأنه عليه السلام تذكر في تلك اللحظات أيام الزهراء في حالة من الاشتياق غزت قلبه (إنها كانت عندي وكانت من أحب أهله إليه، وإنها استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مَجِلت يداها) اخشوشنت من العمل في الأشياء الخشنة (وكسَحت البيت حتى اغبرَّت ثيابُها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دَكِنَت ثيابُها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرَّ ما أنتِ فيه من هذا العمل. فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حُدّاثاً) قوماً يتحدثون (فاستحت فانصرفت، قال: فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها جاءت لحاجة، قال: فغدا علينا ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم. فسكتنا واستحيينا لمكاننا) ولابد أن السكوت بمعنى عدم الرد بصوت مسموع، لا بمعنى عدم الرد مطلقاً لأن رد السلام واجب أو أن رد سلام الإذن غير واجب كما ذكر المجلسي (ثم قال: السلام عليكم. فسكتنا، ثم قال: السلام عليكم. فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلم ثلاثاً، فإن أذِن له وإلا انصرف. فقلت: وعليك السلام يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ادخل. فلم يَعْدُ أن جلسَ عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟ قال: فخشيت إن لم تجبه أن يقوم قال: فأخرجتُ رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنها استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وجرت بالرحا حتى مجِلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكِنت ثيابُها فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرَّ ما أنت فيه من هذا العمل. قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، قال: فأخرجت عليه السلام رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله).
العمل بالوصية:
وحفظ الزوجان وصية النبي، ففي صحيح مسلم: (قال علي: ما تركته منذ سمعتُه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين) ولعل المقصود ليلة الهرير التي كانت أشد ليالي صفين قتالاً.
وتوارث أهل البيت تلك الوصية علماً وعملاً، فعن الصادق عليه السلام أنه قال: (يا أبا هارون، إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنه لم يلزمه عبدٌ فشقي).
عاطفة النبي:
وبين يدي حديث عن الباقر عليه السلام: (ما عُبد الله بشئ من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة عليه السلام، ولو كان شئ أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليه السلام). وهذا يجرنا إلى نقطة مهمة ونحن نتناول هذه المسألة، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يملك عاطفة قوية تجلّت في مواقف عديدة عند تعامله مع المستضعفين والأطفال والعبيد وغير ذلك، وتجلّت هذه العاطفة في تعامله مع أبنائه وأبنائهم بصورة أكبر.. وهذا شئ طبيعي.
ولكن من المهم أن ندرك أن هذه العاطفة الجياشة ما كانت لتحرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستقامة التي أُمِر بها حيث خوطب من السماء: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[هود:112]، على الرغم من أن هذه العاطفة من القوة بحيث تجر الأب إلى التخلي عن مبادئه طلباً لرضا أبنائه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال:27-28].. أي أن هذه المحبة قد تصل إلى مرتبة توقع الإنسان في خيانة ما يؤمن به، فتهلكه وهو يحسب أنه يحسن صنعاً!
اختيار الأفضل:
بالطبع فإن طلب الخادم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليمثل نوعاً من الخيانة في ما لو استجاب النبي للزهراء، ولكن المسألة هي في عدم نزوله عند ضغط العاطفة حين صار بين خيارين، لأن الله تعالى يقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف:46].
فاختار لها الأفضل، فنالت تلك التسبيحة المباركة التي كانت وما زالت وستبقى تلهج بها الألسن عبر الزمان لتخلّد ذكرى الزهراء عليها السلام في تجلياتها الروحية عبر الزمان. وفي الخبر عن الصادق عليه السلام: (من سبّح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يُثني رجلَه من صلاة الفريضة، غفر الله له. ويبدأ بالتكبير).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تخلى عن الخيار الأول ـ لأنه لم يكن الأفضل ـ مع كونه مشروعاً، فكيف بالذين يُرضون أبناءهم من خلال السبل غير المشروعة؟ أيمكن أن يكونوا صادقين في ولائهم للنبي وآله؟
البناء الروحي للأبناء:
وهناك نقطة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، وهي أن على أولياء الأمور أن يهتموا بالبناء الروحي لأبنائهم كما يهتمون بتلبية حاجاتهم المادية، وأحياناً بالمستوى الذي يدمِّر الأبناء دلالاً بدلاً من أن ينفعهم، فيجعلهم اتكاليين، ضعفاء أمام متغيرات الحياة، وقد يبلغون من خلال ذلك مستوى سئ من العقوق للوالدين، كما يولون الماديات أهمية قصوى في الحياة، ويتصاعد حب الذات عندهم إلى أقصى مستوياته، بحيث يظن أحدهم أنه هو محور الوجود، وأن على الجميع أن يكونوا في خدمته! وأي دمار للشخصية بعد هذا؟
إن التربية التي تولي الجانب المعنوي عناية شديدة هي التي تعين الفتاة في حياتها الزوجية المستقبلية، إذ تكون راضية قنوعة، لا تعيش جشع المادة، ولا تستغرق في عالم الكماليات، ولا تستهويها المقارنات مع أقرانها، ولا تُرهق زوجها بطلباتها، فضلاً عن أن تدفعه للطرق غير المشروعة للارتقاء في المستوى المادي.. لأن ذلك كله من الأسباب الخطيرة التي تدمِّر بيت الزوجية، وتجلب الشر إليه، وقد قال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه:131].
لققد تخلت الزهراء عليها السلام عن سوارها والستر المضروب على باب بيتها حين علمت أن ذلك يُحزِن أباها كما في الخبر الذي رواه المسلمون في كتبهم، فقال كلمته الخالدة وهو في قمة الرضا: (قد فعلت.. فداها أبوها).. ومن هنا كانت الزهراء هي القدوة في عالم الزوجية، في رضاها ببساطة الحياة، وفي وقوفها مع زوجها في مختلف الظروف العصيبة، وفي نهوضها بمسؤولياتها تجاه أسرتها، فكانت سيدة النساء.