الدين والسياسة - القسم الثالث - الشيخ علي حسن


استعرضت في الأسبوعين الماضيين بعض صور الخلل في العلاقة بين الدين والسياسة، فكان الحديث عن معركة التأويل، وعن التلبس بالدين، والدس والتحريف في النصوص، كل ذلك من أجل أهداف سياسية معينة.
التظاهر بالغيرة على الدين:
أما الصورة الرابعة للخلل بينهما فتتمثل في التظاهر بالغيرة على الدين أو المذهب بإثارة قضية دينية أو مذهبية، بهدف إلهاء الناس عن الفساد السياسي والاقتصادي والإداري القائم من جهة، وإضفاء حالة من الشرعية على الجهة السياسية المعينة (الحاكم أو الحزب .. إلخ) بكونها المدافعة عن الدين أو المذهب، ومنعاً عن الخروج أو التمرد عليها من جهة أخرى.
مثال ذلك قصة فتنة خلق القرآن التي حدثت في العهد العباسي، فقُتِل فيها وسُجن وعُذّب مَن خالف متبنَّى السلطة السياسية، كل ذلك بادعاء السلطة غيرتها على العقيدة الصحيحة وعلى كتاب الله، بينمت الهدف الحقيقي كان سياسياً.
وذات الشئ تمثل في الصراع العثماني الصفوي الممتد عبر قرون، وكل طرف يدعي الحمية على مذهبه، بينما كان الأمر في كثير من الأحايين مجرد أهداف سياسية وتوسعية وتنافسية بحتة، وتم توظيف عنوان الحمة والغيرة والانتصار للمذهب كوسيلة لتهييج الشارع هنا أو هناك، ولحشد المناصرين تحت شعار طائفي.
الهلال الشيعي:
ونلاحظ اليوم كيف تعمل بعض الحكومات والأحزاب على استغلال عناوين معينة دينية أو مذهبية وتثيرها لنفس الأهداف السابقة، وهي أبعد ما تكون عن الغيرة على الدين أو المذهب، فإثارة عنوان الهلال الشيعي أو المد الشيعي من قبل البعض إنما انطلق في ظاهره من الحمية على أهل السنة والتخويف من انتشار التشيع، وهو في الواقع جاء كردة فعل على التلاحم الشعبي السني الشيعي أبان العدوان الصهيوني على لبنان ومن ثم على غزة. وخدم في الأساس ذلك العدو والدوائر الاستكبارية التي تعمل على تفكيك كل مواقع وأسباب القوة في المنطقة.
ردود أفعال متباينة:
وهكذا تعمل بعض الأحزاب الإسلامية على استغلال أحداث معينة وفق أجندتها، وتحرك الجماهير، وفي المقابل نجد منها سكوتاً مطبقاً في حالات مشابهة، كما في بعض حالات الإساءة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو القرآن، الأمر الذي يثير علامة استفهام كبرى عن مصداقية تلك الاحتجاجات وصدق نواياها ومنطلقاتها.
وننتقل إلى النقطة الأخرى، وهي كيفية مواجهة أئمة أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم لصور الخلل في العلاقة بين الدين والسياسة.
المواجهة الفكرية:
وذلك ببيان حقيقة مفهوم السياسة وصفات الحاكم وفق المنظور الإسلامي، ومعنى القضاء والقدر والجبر والتفويض وغيرها من القضايا ذات البعد الديني والتي استغلت سياسياً، علاوة على التحذير من التيارات الفكرية المنحرفة التي تؤسس وتمد هذا الوضع الخاطئ بالشرعية. وقد بدأ ذلك في خطب وكذلك رسائل أمير المؤمنين علي عليه السلام للأشتر ولأهل مصر ولمحمد بن أبي بكر وغيرها. واستمر على يد بقية الأئمة عليهم السلام الذين دفعوا أحياناً ثمن مواجهاتهم في أكثر من موقف بالتضييق والسجن والقتل.
وعلى نهجهم سار أنصارهم، كأبي ذر الغفاري الذي برز لتخرصات كعب الأحبار في أكثر من موقع حين كان يوظف المفاهيم الدينية لمصلحة سياسية باطلة أو لتبرير وضع فاسد، ففي نص أنه: (شال أبوذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يا ابن اليهودي! تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على الله بذلك، وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً؟).. وكان الثمن الذي دفعه أبو ذر لتلك المواقف الشجاعة أن نُفي حتى توفي غريباً.
كشف النوايا الحقيقية:
وراء بعض الصور التي عرضناها، ففي الخبر أنه: (أرسل أبو جعفر المنصور للصادق عليه السلام: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟) رغبة منه في التظاهر بالتقرب إلى العلماء وأهل التقوى، لإضفاء مزيد من الشرعية على حكمه، ولربما لاستغلال ذلك في الحصول على فتاوى قد تسعفه في بعض المواقف (فقال عليه السلام: ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك عليها، ولا تعدها نقمة فنعزيك عليها، فلم نغشاك؟).
المواجهة العسكرية:
كما حدث في زمن أمير المؤمنين علي عليه السلام في الصراع مع خصومه، مع سعي الإمام قدر الإمكان لتجنب المواجهة العسكرية والدفع نحو إصلاح الأمور بالطريقة السلمية، حتى اتهموه بالجبن في أكثر من موقع فقال: (أيها الناس إني قد راقبتُ هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا ووبختهم بنكثهم وعرفتهم بغيَهم فلم يستجيبوا، وقد بعثوا إلي أن أبرز للطعان واصبر للجلاد، إنما تُمنيك نفسُك أماني الباطل وتعدُك الغرور. ألا هبلتهم الهبول، لقد كنت وما أُهدَّد بالحرب ولا أُرهَب بالضرب، ولقد أنصف القارة من راماها) كناية عن أن الحرب هو ميدانه (فليُرعِدوا وليُبرقوا فقد رأوني قديماً، وعرفوا نكايتي، فقد رأوني أنا أبوالحسن الذي فللتُ حدَّ المشركين وفرَّقتُ جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوي اليوم وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد وعلى يقين من أمري وفي غير شبهة من ديني).
الثورة الحسينية:
وهكذا تكررت المواجهة العسكرية على يد سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام بعد ذلك، وعمل أهل البيت على التأكيد على قضية الحسين وإبقائها حية بصورة دائمة لرمزيتها في المواجهة مع الباطل السياسي، من خلال التأكيد على الزيارة الحسينية، وعلى إحياء ذكرى عاشوراء، وتشجيع الشعر الحسيني وغير ذلك.
إن السياسة كما نفهمها من مدرسة الإسلام إنما تعني تدبير شؤون الناس حتى يمكن أن يحصل المواطن على حياة عزيزة كريمة عادلة مستقرة يعيش فيها إنسانيته، ويتعامل من خلال ذلك مع العالم تحت الشعار القرآني: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13].. وأن الدين هو فريضة عدل، وأن السياسة بمعناها الإنساني هو دين، وأن الدين بمعناه الإنساني الاجتماعي هو سياسة: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )[الحديد:25].. ومن هنا كان الشعر والمحور الذي تدور حوله حركة إمام آخر الزمان هو: (ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلماً وجوراً).