صلة الرحم ـ القسم الأول

قد يتساءل الإنسان عن سر هذا التأكيد على الأرحام والاهتمام بصلتها في قوله تعالى: (يَـأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، واعتبار ذلك قيمةً إسلامية. وربما يضيف البعض أن ذلك قد يفسح المجال للعصبية العائلية أن تُولَد وتتحرّك، وبغطاء شرعي! ولكن القضية ليست في هذا الإطار، بل هي تهدف لتعميق العلاقات الإنسانية وامتدادها من جهة، كما تهدف لتطويق الانفعالات السلبية التي تنمو في النفس من خلال المشكلات التي تنجم بين الأرحام نتيجة حالة التّماس المتواصل الذي تفرضه صلة القرابة.
خلافات عنيفة:
والملاحظ أن المشكلات التي تحدث بين ذوي القربى تكون أحياناً ذات أثر عميق، وتثير الحقد والبغضاء لمدة طويلة! ولعل السر في ذلك وجود تناسب طردي، فبمقدار ما تحب هذا الشخص لرحمه، يكون جرح الخلاف معه عميقاً ومؤلماً. ولعل لتسويلات الشيطان أيضاً دوراً في تأجيج المشاعر والعمل على نبش الملفات القديمة والوسوسة لإعمال سوء الظن: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)[الإسراء:53].
ومن هنا أراد الإسلام أن يجعل لهذه العلاقة قاعدتها الروحية والإيمانية، بالإضافة إلى القاعدة العاطفية الطبيعية.. ولو استعرضنا بعض الأحاديث في هذا الإطار سندرك أن التركيز على صلة الرحم لا ينطلق بهدف ترسيخ التعصب، ومن ذلك ما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجلُ شرارَ قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبَّ الرجلُ قومه، ولكن من العصبية أن يُعين قومَه على الظلم).
قاعدة مهمة:
ومن المهم أن نشير إلى نقطة في مجال استنباط المفاهيم الإسلامية من المصادر الشرعية، فقد لا يكفي في استخلاص المفاهيم من المصادر الإسلامية أن نأخذ حدودها من آية واحدةٍ أو حديث واحد، بل لا بد لنا من قراءة متكاملة لتكتمل الصورة، لأن النص لربما يعالج حدثاً معيناً في ظروف خاصة، ولذا فإن من المنطقي ما يثيره البعض من ملاحظة أن التنازل والعفو بصورة متكررة مع المخطئ من الأرحام والاستمرار في محاولة إعادة الوشائج التي يعمد الطرف الآخر لقطعها دائماً، قد يعزز الخطأ، وقد يجرّئ على المزيد منه، كما وقد يشعر معه الإنسان بإهانة كرامته، وغير ذلك من السلبيات التي قد لا يتحملها الإنسان، أو قد يكون ضررها أكثر من نفعها، مما يضطره إلى ترك المحاولات الجديدة لرأب الصدع.
ولعل ما جاء في ختام الآية القرآنية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) تذكير بأن الله يحفظ أعمال الإنسان ويراقبها ويرصدها، الأمر الذي يفرض على المؤمن اتخاذ الموقف الشرعي والأخلاقي السليم بما يكون متناغماً مع عنوان التقوى والشعور الدائم بالرقابة الإلهية التي تكشف حقيقة النوايا وراء المواقف، لأنه تعالى الذي يعلم السر وأخفى، وأن لا يضع المبررات الواهية للتخلي عن واجب صلة الرحم، وللحديث تتمة بإذن الله تعالى.