خطبة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : ملاحظات على قانون الإعلام


(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء:36]
ـ تتحدث الآية الشريفة في جانب منها عن مسؤولية الإنسان أمام الله عن وسائل المعرفة الحسية والعقليّة، فيُسأل عما سمع، وما النتائج التي رتّبها على ذلك، ويُسأل عما رأى، والنتائج المترتبة على ذلك، ويُسأل عن العقل وعما وعاه من خلال الحواس والتفكير، أو عن تكاسله عن إعمال دوره المهم.
ـ وهذا يؤكد الفكرة التي تقول أن الإنسان ليس حراً بصورة مطلقة في فعل ما شاء، بل هو حر في إطار القانون الإلهي الذي ينظِّم مسألة الواجب والمحرَّم. ومن ضمن ذلك حرمة الإضرار بالآخرين وبالبيئة المحيطة إلخ.
ـ وتحت هذا الإطار القانوني الإلهي أيضاً يأتي عنوان ضرورة التقيد بالقوانين التي تنظّم الحياة في المجتمعات وفيما بينها وإن كانت وضعية، ما دامت تصب في الصالح العام.
ـ فالتقيد بقوانين البلدية والمرور والصحة وتنظيم دخول البلاد والخروج منها وغير ذلك أمر ضروري من وجهة نظر شرعية، على الأقل تحت عنوان: (حفظ النظام العام).. ومن هنا كان اعتماد الدساتير في الدول أمراً مهماً جداً، للحاكم والمواطن في نفس الوقت.
ـ ولكن المشكلة تكمن في استغلال بعض السلطات لهذه النقطة لتضييق الحريات، بذريعة مواجهة خطر هنا أو هناك، بل تصل الأمور أحياناً إلى مستوى من التقنين وكأن المشرِّع لا يعيش في هذا الزمن، ولا يدرك خصوصياته.
ـ ولا ننسى السرعة المذهلة التي تتطور فيها بعض الأمور التقنية فتخفى على بعض المشرّعين الذين ما زالت الفجوة بينهم وبين عالم الاتصال والمعرفة الحديثة والإعلام المعاصر كبيرة جداً.
ـ مشروع قانون الإعلام الموحَّد المقدَّم من قبل وزارة الإعلام، والذي أثار جدلاً واسعاً خلال الأيام الماضية، وتم سحبه مؤخراً، يعاني من هذه المشكلة.. صحيح أنه يبدأ بعبارات جميلة كما في المادة الثانية: (حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وذلك وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها هذا القانون) ولكن مشكلته الأساسية في هذه الشروط والأوضاع، حتى أن إدارة الفتوى والتشريع اعتبرت أن في مواده ما يتعارض مع الدستور الكويتي.
ـ بل احتوى على ما يتعارض مع مواثيق دولية وأقليمية وقعت عليها الكويت فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية الصحافة وغير ذلك، وهو تكرار لذات الخلل في قوانين الإعلام السابقة.
ـ من الملاحظات على مشروع القانون هذا أنه أدرَج ولأول مرة شبكات التواصل الاجتماعي في مواده بما يشمل: (المنتديات والمدونات وغرف المحادثة وغيرها من المواقع الشخصية) مع شئ من الغموض.
ـ وعلى الرغم من سحب المشروع، إلا أن الحديث عن تقنين هذا البند لا زال موجوداً.
ـ وإدخال هذه الأمور ضمن الحالة الرقابية يعطي تصوراً بأنه يراد للكويت أن تتحول شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه وضع بعض الدول البوليسية التي تراقب وتحاسب كل اثنين يتحدثان؟
ـ وهل بالإمكان أصلاً مراقبة ومحاسبة كل هذا الكم الهائل من التواصل في عالم الإنترنت؟
ـ وهل يمكن أن ننشئ مجتمعاً سوياً أخلاقياً وسلوكياً وسياسياً من خلال هذا التحول في الدور الرقابي والعقابي؟ ولنا في سوء حال بعض المجتمعات التي تعيش مثل هذا الكبت والتقييد خير عبرة، سواء على الصعيد الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي.
ـ من الملاحظات المتكررة في هذا المجال هو المادة التي تتحدث عن ضرورة استصدار ترخيص قبل طباعة أي مطبوع.. لا بأس، ولكن واقع الحال يحكي عن أن الجهة الرقابية التي تراجع المطبوع تعاني من عدم الحياد أو ضيق الأفق، ما يجعلها تمارس دورها بمزاجية أحياناً، وبتعصب أحياناً أخرى.
ـ خاصة بملاحظة المادة التي تنص على: (حظر طبع أو نشر أو بث أو إعادة بث أو عرض ما من شأنه: المساس بالذات الإلهية أو الملائكة أو القرآن الكريم أو الأنبياء والرسل(ع) أو الصحابة الأخيار أو زوجات النبي(ص) أو آل البيت(ع) المعاصرين للرسول(ص) بالتعرض أو الطعن أو السخرية أو النقد أو التجريح).
ـ فالبحث التاريخي أحياناً يصنَّف بأنه طعن ومساس بالشخصية، بل حتى مجرد نقل الخبر يعتبر كذلك.. ولو أريد تطبيق هذه المادة لكانت كل الموسوعات الحديثية والتاريخية وكتب التفسير والأدب ممنوعة لتضمنها صوراً واضحة من المساس بالشخصيات بالصورة المذكورة.. فهل يمكن الالتزام بذلك؟
ـ ثم لا أفهم معنى المنع مع توفر النسخ الإلكترونية من هذه الكتب على الإنترنت؟ فهل سيتم حجب هذه المواقع أيضاً وهي بالآلاف؟ وهل سيمنعون المحاضرات المبثوثة على اليوتيوب وهي تتضمن ما هو أسوأ بمراتب مما تحتويه بعض الكتب وفق التصنيف السابق؟ ثم هل يجهلون طرق كسر الحظر؟
ـ وهنا أود أن أنتهز هذه الفرصة لأعلق على ما تناقلته الصحف عن إدخال موضوع (الآل والأصحاب) في مناهج التربية الإسلامية.. ولا تحفّظ على أصل الموضوع، ولكننا نتحفّظ على المضمون الذي تعوّدنا أن يُطرح بصورة غير مباشرة فقط لتخطئة المسلمين الشيعة في عقائدهم وقراءتهم التاريخية.
ـ علينا أن نتحمل مسؤولية الصورة الجميلة التي ارتسمت عن الكويت في أذهان العالم.. الكويت ذلك البلد الذي يتمتع بسقف عال من الحرية والتجربة الصحفية والإعلامية الرائدة.. الكويت التي لا تستطيع أن تفصلها عن المشاركة الشعبية البرلمانية التي تسمح بالرقابة والتشريع.. الكويت التي عُرفت على مدى عقود بدورها الريادي الوطني والعالمي في خدمة التنمية الإنسانية.. الكويت التي تمتعت بدور ثقافي كبير ومتميز وخدمة واضحة للتنمية الثقافية العربية.. الكويت التي نعمت بالدستور منذ أكثر من نصف قرن، في حالة فريدة ومتميزة في المنطقة.. وإن على المشرِّعين أن يفكروا ألف مرة ومرة قبل أن يَشرَعوا في تشويه ومحو تلك الصورة البرّاقة في لحظة عنفوان وإحساس بالقوة، أو في لحظة انفعال تحتاج إلى الكثير من الحكمة كي تضبط لها توازن قراراتهم.. ولنعي أن استصدار مثل هذه القوانين وتنفيذ عقوباتها قد يكون الطريق الأسهل وفق ما يتصور البعض لتحقيق حالة من الضبط الأمني والسياسي ضمن مقاييس معينة، ولكنها تحمل في طياتها ـ وبكل ـ وضوح نُذُرَ الشرّ، وشررَ الفتنة.