الدين والسياسة - القسم الثاني

تناولت في الأسبوع الماضي موضوع الخلل في العلاقة بين الدين والسياسة، وتناولت جانباً من الصورة الأولى، وهي معركة التأويل والتي تعني من جهة (توظيف الحق لمصلحة سياسية باطلة)، وانتهينا من الحديث في ذلك.. وتعني من جهة أخرى (التلاعب في دلالة النص لمصلحة سياسية باطلة).
تغيير معنى القضاء:
عندنا في القرآن نصوص كثيرة تتحدث عن القضاء والقدر وعن الإرادة الإلهية من قبيل: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ)[الإنسان:30] وقوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال:17]. ولكن فلنلاحظ كيف يتم تغيير دلالة تلك النصوص لتوظيفها لمصلحة سياسية معينة، ففي كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: أن معاوية لما نصّب ابنه يزيد واعترض عليه عبدالله بن عمر أجابه: (إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم).. وهذا النوع من معركة التأويل أخطر من الأول، لأن الأول يزول عادة بموت الأشخاص وانتهاء صراعاتهم، أما هنا فالخطر يكمن في بقاء الفكرة وامتدادها وتجذرها.
الصورة الثانية:
من صور الخلل في العلاقة بين السياسة والدين تتمثل في ارتداء عباءة الدين، وتوظيف هذا الظاهر لتحقيق المصالح السياسية.. بالطبع فإن هذا ليس بالأمر الجديد ولا الخاص بالإسلام، فالإمبراطور قسطنطين الأول الوثني الذي عاش في القرن الميلادي الرابع وكان يحكم الإمبراطورية الرومانية الغربية لما أراد أن يوسّع مملكته عمد إلى إعلان إيقاف اضطهاد المسيحيين من رعاياه واعترف بالمسيحية كدين، ومزج مجموعة من العقائد والطقوس الوثنية في المسيحية بقيت إلى هذا اليوم، فكسب قاعدة جماهيرية عريضة مكّنته من مد امبراطوريته إلى الشرق، ووحّد الإمبراطوريتين الغربية والشرقية تحت حكمه.
المأمون والتشيع:
وفي صورة قريبة من ذلك نجد المأمون العباسي بعد أن قتل أخاه الأمين، أصبح منبوذاً عند العباسيين في بغداد، فأسس لنفسه عاصمة في (مرو) بتركمنستان، وهناك بدأ التودد لآل علي عليه السلام الذين كانوا يمثلون مع أنصارهم جبهة مضطهدة ومعارضة كبيرة، ونجح في ذلك بعد إعلان تشيعه وتنصيب الإمام الرضا عليه السلام في مقام ولاية العهد، واتخاذ اللون الأخضر شعاراً وغير ذلك من إجراءات.. حتى إذا وصل إلى غايته، اغتال الإمام الرضا ومحمد ابن الإمام الصادق وغيرَهم من البيت العلوي، ثم عاد إلى بغداد بعد أن كسب ود العباسيين فيها ووحّد الدولة العباسية تحت حكمه القوي.
حمامة الحرم:
وهكذا نجد أن ابن سعد وغيره من المؤرخين يعدّون عبدالملك بن مروان أحد فقهاء المدينة، ويروون عن نافع قوله: (لقد رأيت عبد الملك بن مروان وما بالمدينة أشد تشميراً ولا أطلب للعلم منه)، بل كان فِعلُه حجة شرعية عند بعضهم، فابن شهاب الزهري لما سئل عن ربط الأسنان بالذهب، قال: (لا بأس به، ربط عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب!). ووُصف عبدالملك بأنه كان عابداً ناسكاً قبل الخلافة حتى لُقِّب بحمامة الحرم، ولكنه كما في (البداية والنهاية) لابن كثير: (لما سُلِّم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف، فأطبقه وقال: هذا فراق بيني وبينك).
ويروي ابن الأثير في (الكامل في التاريخ): (حجَّ بالناس عبد الملك فخطب الناس بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه، أما بعد، فإني لست بالخليفة المستضعَف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد. ألا وإني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتُكم، وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. ثم نزل).
الصورة الثالثة:
الدس وتحريف النص الديني لأهداف سياسية محضة.. ولعل أوضح صورة لذلك مجموعة الأحاديث التي توجب إطاعة السلطان ولو كان جائراً باغياً شيطاني الحقيقة. ومنها ما روي عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (... يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله ان أدركت ذلك. قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).
ولا أتصور أنه يوجد في التراث الإسلامي ما هو أكثر فائدة من هذا الخبر لعشاق السلطة من هذا النص الذي أربأ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون قد قاله!
المرشحون بين الجنة والنار:
إن الأمثلة المعاصرة للتلاعب في دلالات النص الديني لتحقيق الأغراض السياسية كثيرة، ومنها ما يُصدره البعض من أحكام حول حرمة التصويت لغير المرشح الإسلامي الفلاني، أو دخول النار لمن لا يصوّت للحزب الإسلامي الفلاني، وأمثال ذلك، اعتماداً على نصوص من قبيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119]، وقوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة:44] وأمثال ذلك. أما المتلبّسون باللباس الديني لغرض الوصول إلى مطامحهم السياسية فقد ملؤوا المشهد السياسي المعاصر، كما ملأت فضائحهم بعد ثورات الربيع العربي وسائل الإعلام حتى أزكمت الأنوف. وهكذا شهدنا الورطة التشريعية التي عاشتها بعض الأحزاب الدينية في التعارض بين واقع الظلم والفساد والثورات والمطالب الجماهيرية، وبين النصوص الداعية للخضوع لظلم الحكام وفسادهم، مما خلق حالة من الفوضى الفتوائية أحياناً، أو دَفَع ـ تارة ـ لتقديم تبريرات باردة، أو لمراجعة تلك الأحزاب لأجنداتها وأهدافها الاستراتيجية تارة أخرى في ظل صدمة ثقافية وميدانية.
وستكون لنا وقفة مع صور أخرى من الخلل في العلاقة بين الدين والسياسة، وعن صور المواجهة التي نهض بها أئمة أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم في هذا الإطار.