خطبة الجمعة 9 جمادى الآخرة 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الدين والسياسة ـ القسم الأخير


ـ تحدثت في الأسبوعين الماضيين عن صور من الخلل في العلاقة بين الدين والسياسة، فكان الحديث عن معركة التأويل، وعن التلبس بالدين، والدس والتحريف... أما الصورة الرابعة للخلل بينهما فيتمثل في التظاهر بالغيرة على الدين أو المذهب بإثارة قضية دينية أو مذهبية، بهدف إلهاء الناس عن الفساد السياسي والاقتصادي والإداري القائم من جهة، وإضفاء حالة من الشرعية على الحاكم المدافع عن الدين أو المذهب منعاً للخروج عليه من جهة أخرى.
ـ مثال ذلك ما رواه الجاحظ في كتاب (الرد على الإمامية) وغيره: (إن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللهم إن أبا تراب ألْحَدَ في دينك، وصد عن سبيك، فالعنه لعنا وبيلا، وعذبه عذابا أليما. وكتب ذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز).
ـ ومثال آخر فتنة خلق القرآن التي حدثت في العهد العباسي، فقُتِل فيها وسُجن وعُذّب مَن خالف متبنَّى السلطة السياسية، كل ذلك بادعاء السلطة غيرتها على العقيدة الصحيحة وعلى كتاب الله.
ـ ولاحظ اليوم كيف تعمل بعض الحكومات على استغلال عناوين معينة دينية أو مذهبية وتثيرها لنفس الأهداف السابقة، وهي أبعد ما تكون عن الغيرة على الدين أو المذهب.
ـ فإثارة عنوان المثلث الشيعي والمد الشيعي من قبل بعض الحكام انطلقت في ظاهرها من الحمية على أهل السنة والتخويف من انتشار التشيع، وهي في الواقع جاءت كردة فعل على انتصار المقاومة عام 2006، والتلاحم العربي والإسلامي أبان ذلك العدوان، وأبان العدوان على غزة أيضاً، وبالتالي مثّلت خدمة مجانية للعدو الصهيوني وللدوائر الاستكبارية التي تعمل على تفكيك كل مواقع وأسباب القوة في المنطقة.
ـ وهكذا تعمل بعض الأحزاب الإسلامية على استغلال أحداث معينة وفق أجندتها، وتحرك الجماهير، وفي المقابل نجد منها سكوتاً مطبقاً في حالات مشابهة، كما في بعض حالات الإساءة للنبي أو القرآن، الأمر الذي يثير علامة استفهام كبرى عن مصداقية تلك الاحتجاجات وصدق نواياها ومنطلقاتها.
ـ وننتقل الآن إلى النقطة الأخرى وهي كيفية مواجهة أئمة أهل البيت(ع) وأنصارهم لهذا الباطل.
1ـ المواجهة الفكرية: ببيان حقيقة مفهوم السياسة وصفات الحاكم وفق المنظور الإسلامي، ومعنى القضاء والقدر والجبر والتفويض، والتحذير من التيارات الفكرية المنحرفة. وقد بدأ ذلك في خطابات ورسائل أمير المؤمنين(ع) للأشتر ولأهل مصر ولمحمد بن أبي بكر وغيرها. واستمر على يد بقية الأئمة(ع) الذين دفعوا أحياناً ثمن مواجهاتهم في أكثر من موقف بالتضييق والسجن والقتل.
ـ وعلى نهجهم سار أنصارهم، كأبي ذر الغفاري الذي برز لتخرصات كعب الأحبار في أكثر من موقع حين كان يفتي بالباطل ويتلاعب بالمفاهيم لمصلحة سياسية، ففي نص أنه: (شال أبوذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يا ابن اليهودي! تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على الله بذلك، وأنا سمعت رسول الله(ص) يقول: ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً؟).. وكان الثمن الذي دفعه أبو ذر لتلك المواقف الشجاعة أن نُفي حتى توفي غريباً.
2ـ كشف النوايا الحقيقية: وراء بعض الصور التي عرضناها، ففي الخبر أنه: (أرسل أبو جعفر المنصور للصادق(ع): لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فقال(ع): ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك عليها، ولا تعدها نقمة فنعزيك عليها، فلم نغشاك؟).
3ـ المواجهة العسكرية: كما حدث في زمن أمير المؤمنين علي(ع) في الصراع مع خصومه، مع سعي الإمام قدر الإمكان لتجنب المواجهة العسكرية والدفع نحو إصلاح الأمور بالطريقة السلمية، حتى اتهموه بالجبن في أكثر من موقع فقال: (أيها الناس إني قد راقبتُ هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا ووبختهم بنكثهم وعرفتهم بغيَهم فلم يستجيبوا، وقد بعثوا إلي أن أبرز للطعان واصبر للجلاد، إنما تُمنيك نفسُك أماني الباطل وتعدُك الغرور. ألا هبلتهم الهبول، لقد كنت وما أُهدَّد بالحرب ولا أُرهَب بالضرب، ولقد أنصف القارة من راماها) كناية عن أن الحرب هو ميدانه (فليُرعِدوا وليُبرقوا فقد رأوني قديماً، وعرفوا نكايتي، فقد رأوني أنا أبوالحسن الذي فللتُ حدَّ المشركين وفرَّقتُ جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوي اليوم وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد وعلى يقين من أمري وفي غير شبهة من ديني).
ـ وهكذا تكررت المواجهة العسكرية على يد سيد الشهداء(ع) بعد ذلك، وعمل أهل البيت(ع) على التأكيد على قضية الحسين وإبقائها حية بصورة دائمة لرمزيتها في المواجهة مع الباطل السياسي، من خلال التأكيد على الزيارة الحسينية، وعلى إحياء ذكرى عاشوراء، وتشجيع الشعر الحسيني وغير ذلك.
ـ لقد تعلمنا في مدرسة الإسلام أن السياسة تعني تدبير شؤون الناس حتتى يمكن أن يحصل المواطن على حياة عزيزة كريمة عادلة مستقرة يعيش فيها إنسانيته، ويتعامل من خلال ذلك مع العالم تحت الشعار القرآني: (لتعارفوا).. كما تعلمنا في مدرسة الإسلام أن الدين هو فريضة عدل، وأن السياسة بمعناها الإنساني هو دين، وأن الدين بمعناه الإنساني الاجتماعي هو سياسة: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )[الحديد:25].