الدين والسياسة - القسم الأول - الشيخ علي حسن


وفق ما نفهمه من المنظور الإسلامي من المفترض أن يلعب الدين دور الموجِّه للسياسة والراسم لخطوطها العريضة، بدلالة قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:15].
كما أن من المفترض بالقائمين على السياسة أن يعملوا ـ ضمن مسؤولياتهم المتعددة ـ على ترسيخ موقع الدين في المجتمع، بدلالة قوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)[الحج:41].
الدين بمفهومه الواسع:
وذِكْر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية السابقة يوسّع أفق مفهوم الدين هنا، فالمسألة ليست مجرد ممارسات عبادية، بل تشمل قضايا من قبيل العدالة الاجتماعية ومنظومة الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، والمساواة أمام القانون، وفرص الحياة الكريمة، والتنمية، وغير ذلك.
وما أورع كلمات أمير المؤمنين علي عليه السلام في هذا الإطار حيث قال: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك).
فصل الدين عن السياسة:
ومن هنا ـ ووفق المنظور السابق ـ لا نستطيع قبول مقولة فصل الدين عن السياسة، وفصل السياسة عن الدين ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أيضاً قبول توظيف الدين في المصالح السياسية، ولا التلاعب في الدين من أجل السياسة. وخلل العلاقة بين الدين والسياسة يمكن تصوّره بعدة صور، من بينها:
معركة التأويل:
وما اصطلح عليها بمعركة التأويل يعني إما بتوظيف الحق لمصلحة سياسية باطلة، وبتعبير آخر (كلمة حق يراد بها باطل)، وإما بالتلاعب في دلالة النص وتفسيره بصورة باطلة. وعادة ما يصعب في معركة التأويل تمييز الحق من الباطل، خلافاً لمعركة التنزيل التي يمتاز فيها الباطل عن الحق بصورة أكثر وضوحاً.. وكلا المصطلحين من نتاج حديث مروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
خاصف النعل:
ولنلاحظ الخبر التالي الوارد في الموسوعة الحديثية المبوَّبة على موقع (الدرر السنية مرجع علمي على منهج أهل السنة الجماعة) نقلاً عن أمهات المصادر عند إخواننا من أهل السنة عن أبي سعيد الخدري: (كنا قعوداً ننتظرُ رسولَ اللهِ(ص) فخرجَ إلينا من حُجْرةِ عائشةَ(رض) فانقطعتْ نعلهُ فرمَى بها إلى عليّ(ع) ثم جلسَ فقال: إن منكُم لمن ليقاتلنََّ على تأويلِ القرآنِ كما قاتلتُ على تنزيلهِ فقال أبو بكرٍ(رض): أنَا. قال: لا. قال عمرُ(رض): أنَا. قال لا، ولكنه خاصِفُ النعلِ في الحجرةِ. قال رجاءُ الزُّبَيْدِيّ: فأتى رجلٌ عليّاً في الرحبةِ فقال: يا أميرَ المؤمنينَ، هل كان في حديثِ النعلِ شئ؟ قال: اللهم إنّكَ لتشهدُ أنّه مما كان رسولُ اللهِ(ص) يَسُرّهُ إليّ). وتحت الخبر عبارة: (رواته عدول أثبات).
ملاحظات مهمة:
قبل توضيح دلالة القتال على التأويل لابد من بيان بعض الأمور:
1ـ مجموع الأحاديث المشابهة في المضمون والواردة في هذه الموسوعة 14 حديثاً، منها ما عُبّر عنه بـ (رجاله رجال الصحيح) أو (صحيح).
2ـ ما معنى سؤال الرجل: (هل كان في حديثِ النعلِ شئ)؟
عند العودة إلى نص آخر حول ذات الحدث نفهم السبب، وفيه: (ثم التفت إلينا علي، فقال: إن رسول الله(ص) قال: مَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وهذا يعني أن سؤال الرجل كان مبنياً على تشكيك البعض بأصل الحدث، وهو ما واجهه الإمام(ع) بكلامه الأخير.
3ـ لماذا قال الإمام: (اللهم إنّكَ لتشهدُ أنّه مما كان رسولُ اللهِ(ص) يُسِرُّهُ إليّ)؟
في أحد النصوص قال الرواي: (فجئنا نبشِّرُهُ. قالَ: فكأنَّهُ قد سمِعَهُ من رسولِ اللَّهِ (ص)). أي لم يحضر الإمام علي الحدث، ولكنه لما أُخبِر فهموا منه أن النبي قد أعلمه بأنه سيتحمل هذه المسؤولية.
المراد من التأويل:
الآن نعود إلى السؤال الرئيس: ما طبيعة هذا التأويل الذي حاربه الإمام بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفع حياته ثمناً لقتاله.. وما هي مصاديقه؟ قد يكون التأويل هنا بمعنى توظيف الحق لمصلحة سياسية باطلة، وهو ما يتضح من خلال نفس الخبر ولكن بتفصيل آخر رواه الطحاوي بسنده: (سمعتُ رسولَ اللهِ(ص) يقول لما افتَتحَ مكةَ وأتاه أُناسٌ من قريش فقالوا: يا محمدُ، إنا حلفاؤك وقومُك، وإنه قد لحِقَ بك أبناؤنا وأرِقَّاؤنا، وليس بهم رغبةٌ في الإسلامِ، وإنما فرُّوا من العملِ فاردُدْهم علينا. فشاور أبا بكرٍ(رض) في أمرهم فقال: صدقُوا يا رسولَ اللهِ. فتغيَّر وجهُه. فقال: يا عمرُ، ما ترى؟ فقال مثلَ قولِ أبِي بكرٍ. فقال رسولُ اللهِ(ص): يا معشرَ قريشٍ لَيبعثنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عليكم رجلاً منكم امتحن اللهُ عزَّ وجلَّ قلبَه للإيمانِ لِيضربَ رقابَكم على الدِّينِ. فقال أبو بكرٍ: أنا هو يا رسولَ اللهِ. قال: لا. قال عمرُ: أنا هو يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولكنه خاصفُ النَّعلِ في المسجدِ. قال: وكان قد ألقى إلى عليٍّ(ع) نعلَه يخصِفُها). (رواته عدول أثبات)
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجه الناس إلى أنه سيكون هناك تلاعب في المواقف السياسية وخلفياتها، وأن علياً عليه السلام يمتلك من البصيرة والسداد والحكمة ما يتمكن من خلالها أن يميّز ما هو الموقف الصحيح في مثل هذه المواقع التي يختلط فيها الحق والباطل. الأمر الذي سيعارض مصالح البعض ويدفعهم للمواجهة وإعلان الحرب، وبالتالي سيقاتلهم الإمام علي من أجل إحقاق الحق.
كما قد يكون التأويل بمعنى التلاعب بدلالات النصوص الدينية، وبالتالي تفريغ الدين من مضامينه طمعاً في تحقيق مكاسب سياسية معينة، وهذا ما سنتحدث عنه وعن مصاديقه التاريخية، وكذلك حول الصور الأخرى لخلل العلاقة بين الدين والسياسة في الأسبوع المقبل بإذن الله.