الشهيد الصّدر: عبقريّة مبدعة نقلتنا إلى عالم إسلاميّ أرحب

يتناول الباحث في الشّؤون الإسلاميّة، السيّد محمد طاهر الحسيني، في هذه المقابلة، أبرز الخصائص الّتي تميّزت بها شخصيّة السيّد الشّهيد محمد باقر الصّدر، والعناصر المكوّنة لهذه الشّخصيّة الرساليّة، متوقّفاً عند أبرز ملامح مشروعه الإسلاميّ.
عبقريّة ونبوغ:
س: شكَّل الشَّهيد السيّد محمَّد باقر الصَّدر ظاهرة فريدة، لناحية نبوغه ونتاجه العلميّ. فما هي أبرز العناصر المكوّنة لهذه الشخصيَّة الرساليَّة الفذَّة؟
ج: إنَّ هناك جدلاً بين علماء النَّفس حول مصادر العبقريَّة ومنابع الإبداع لدى جملة من المبدعين والعباقرة، والشَّهيد الصَّدر واحد منهم، فثمَّة من يفترض منهم أنها ترجع إلى عاملٍ وراثيّ، واضعاً بناءً على ذلك أسساً لظاهرة العبقريَّة، وهناك من يعتبر أنّ المعطيات البيولوجيَّة هي الموجّه الرئيس للسّلوك الإنساني، ولذلك، اعتبر هؤلاء العلماء أنّه ليس من الصّدفة أن تنتظم مجموعات من العباقرة في عائلة واحدة. وقد تكون عائلة آل الصَّدر، الَّتي ينتمي إليها الشَّهيد محمّد باقر الصَّدر، عيّنة من العيّنات الّتي تدعم هذه النظريَّة.
وفي الاتجاه الآخر، ثمة رأي يرى أنَّ ذلك لا يتمّ بمعزل عن التّأثير البيئيّ، فانتظام عددٍ من المبدعين والعباقرة في أسرة واحدة، يرجع إلى ظاهرة تحفيز القدرات الَّتي تدفع باتجاه تنامي العبقريَّة والإبداع من جيلٍ إلى آخر في سلالة واحدة، وخصوصاً أنَّ العيش في أجواء تتناغم مع قدرات الشَّخص، من شأنها تطوير هذه القدرات بشكلٍ مذهلٍ ولافت.
وعلى أيّ حال، قد يكون الشَّهيد محمَّد باقر الصَّدر أنموذجاً للاتجاهين معاً، إذ إنّه نبغ في أسرةٍ انتظم عددٌ من أبنائها في سلك المبدعين والعباقرة، وعاش في محيط كان يضجّ بالمعرفة، ونما في ظلال الفكر والأدب.
وقد قُدِّر للشَّهيد الصَّدر أن يعيش في مدرسة من أهمّ مدارس الفقه، وهي مدينة النَّجف الأشرف، حيث يمكن تسميتها بـ "مملكة الفقه" بلا منازع. ولكنَّه مع إجلاله الشّديد لهذه المدرسة، تجاوزها إلى عالم أوسع، بحيث لم يسمح لهذه المدينة، وإن عظمت، بأن تحجر عليه، وهو ما يبدو في اهتماماته غير المألوفة في الوسط النَّجفي، فإنَّ الوسط النّجفيّ يومذاك كان يألف الأدب والفقه والأصول، ولكنَّه لم يألف الفلسفة مثلاً، كما لم يألف الكتابة والتّفكير في مقولاتٍ لم تكن موضع حاجة للدّراسة، وهو ما يبدو في بعض كتب الصّدر، كما في "اقتصادنا".
من يعرف الشَّهيد الصَّدر وأين كان يسكن، يعرف تماماً التفرّد الَّذي عرف به الشَّهيد، فكيف يستطيع من هو مثله، وهو يعيش في أزقّة مغلقة ومدينة مغلقة، مع شحٍّ في مصادر المعرفة والمعلومات، أن يتجاوز هذا العالم إلى عالم أرحب، كما لو كان يعيش في مدينة على ساحل بحر، أو مدينة تقع على مفترق طرق عالميّة؟! مع العلم أنَّه لم يُعرف عنه أنَّه سافر كثيراً أو تنقّل بين البلدان، بل كانت يتنقّل فقط بين مدن العراق.
خصائص مدرسة الصّدر:
س: ما هي أبرز الخصائص الَّتي تميَّز بها السيّد الشَّهيد على مستوى النظريّة والمنهج في شتّى المعارف والعلوم الّتي تطرّق إليها؟
ج: هذا السّؤال يحتاج إلى الكثير من التّفصيل، وقد أجبت عنه ـ إلى حدّ ما ـ في كتابي "محمد باقر الصّدر حياة حافلة.. فكر خلاّق"، وفي عددٍ من البحوث والمقالات الّتي كتبتها عن الشّهيد الصّدر. يمكنني القول إنَّ الشَّهيد الصَّدر تميَّز بعدّة خصائص، طبعت مدرسته عموماً، وهي ترجع إلى خصائص فرعيَّة، وهي كما تطبع المحتوى الفكريّ والعلميّ لهذه المدرسة، فإنها تطبع الشَّكل واللّغة. وأظنّ أنَّ أبرز هذه الخصائص: الدقّة العلميَّة، والمنهج الموضوعيّ، واحترام المعطى العلميّ. وقد ترشَّح عن ذلك في كلّ بابٍ من أبواب المعرفة الَّتي خاض فيها، ما يناسب هذا الباب.
وقد نتج من ذلك جملة أهداف، من أهمّها: تحديث الخطاب الدّينيّ وتأصيله وتعميمه، لأنّه لم يكن ليفصل بين ما هو معرفيّ دينيّ وما هو عمليّ، ذلك أنّه كان عميق الإيمان بالجدوى العمليَّة لما يؤمن به، فلم يكن يعيش مفارقة الانفصام بين النَّظريّة والواقع، حتّى إن كان الواقع بعيداً عن النظريّة، لأنَّه كان يؤمن بأنَّه قابل للتَّغيير، وهو ما بدا في إيمانه العميق بالمشروع الإسلاميّ.
مرجعيّة حركيَّة:
س: يُعتبر السيِّد الشَّهيد الصَّدر من المراجع الحركيّين العاملين. ما هي أبرز محطّات مسيرته العلميَّة والجهاديَّة والاجتماعيَّة العامّة؟
ج: لا بدَّ من أن نركّز على جانب مهمّ في الإجابة عن هذا السّؤال، وهو يتَّصل بالمشروع الجهادي للشَّهيد الصَّدر، وأعني به إيمانه العميق والمسؤول بالمشروع الإسلاميّ، إيماناً يتجاوز التّاريخ إلى الحاضر والمستقبل. وإنما قلت يتجاوز التّاريخ، لأنَّه ليس هناك من لا يؤمن بالمشروع الإسلاميّ التّاريخيّ، وبقدرة الإسلام على النّهوض بالمسلمين، والّذي تجسّد بتأسيس دولة لهم كان لها الأثر الكبير، ليس على المستوى الإقليميّ، بل على المستوى العالميّ، وإنما المهمّ هو الإيمان بقدرة هذا المشروع على الوفاء بمتطلّبات العصر، وهو ما يعني الإجابة عن تساؤلات العصر وتطلّعاته، إن جاز هذا التّعبير، وهو ما كان يعتقده الشّهيد الصّدر، ونذر نفسه له على المستوى النظريّ والعمليّ، وقد ترجم هذا الإيمان بالعمل الدّؤوب والجادّ لتعميمه، بعد أن خارت قوى المسلمين وأبناء الإسلام وضعفت هممهم. ولا أظنّني أستوفي الحديث عن العمل الَّذي بذله الشَّهيد الصَّدر في هذا المجال، وهو عمل جبّار، بالنّظر إلى الظّروف والمعطيات الّتي كانت تحيط به.