دعوة للتسامح

(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)[الجاثية:14-15].. نزلت الآيتان في مرحلة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قومَه إلى الإيمان.. حيث كان يدعوهم فيها بكل صور المحبة، ويُواجَه بكل صور الاضطهاد. وفيهما عدة دلالات مهمة:
1ـ حيث كان المؤمنون يتحفّزون للمواجهة، وللدفاع عن أنفسهم، دعاهم الله إلى المزيد من الصبر في الدعوة، والصفح عنهم (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)، فلربما اهتدوا، ولربما كان التصادم معهم يدفع لتعقيد الأمور، وإغلاق طرق التراجع أمام المشركين.
2ـ تأكيد على أن مواقف المشركين ناشئة عن جهل منهم، لا عن منطق ودليل، ففي قوله: (لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) تعبير عن جهل المشركين بحقيقة الإيمان ونتائجه، وبالتالي فهم لا يتمنون ما فيه الخير لهم مما أُعِد للمؤمنين في الآخرة، من المغفرة والرحمة والجنة.
3ـ ثم تؤكد الآيتان على أن الجزاء في الثواب والعقاب من شؤون الله، لا من شؤون الناس.. وكأن الآية تقول: هل تتصورون أن شيئاً من ذلك يفوت الله كي تتدخلوا في هذا الشأن، ولو بالمسرعة في إصدار الأحكام؟
4ـ كما تؤكد الآيتان على المسؤولية الفردية ضمن قاعدة: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]، فلا تقلقوا من خلط الأوراق وضياع الحقائق وأخذ المحسن بالمسئ.
في الدائرة الإسلامية:
وقد استوحى الإمام جعفر الصادق عليه السلام من الآية الأولى قاعدة عامة كما جاء في الحديث الذي رواه داود بن كثير عنه في تفسير قوله: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ) قال: (قل للذين مَننّا عليهم بمعرفتنا) أي بالاعتقاد بالإمامة في علي وآله (أن يغفروا للذين لا يعلمون، فإذا عَرِفوهم فقد غُفِر لهم)... وفي هذا الحديد عدة دلالات:
1ـ دعوة للتسامح في إطار ما بين المذاهب الإسلامية.
2ـ دعوة لعدم التدخل في الشأن الإلهي في الحكم على الناس. فالله لم يوكِل أحداً للحُكم على الناس في مصيرهم الأخروي.
3ـ ضرورة عدم التسرع في الحكم على أحد، فلربما كانت الحقيقة التي آمن بها الإنسان غير بعيدة عن أن يصل إليها الآخرون، فالله لم يوكل أحداً للتحدّث باسمه في المصير الأخروي الذي ينتظر الناس.
سعد بن معاذ:
عندما دخل الصحابي الجليل سعد بن معاذ في الإسلام على يد على يد مصعب بن عمير رحمهما الله، وُصف بأن إسلامه كان عظيم البركة، لمكانته في قومه من الأوسيين، فآمن كثيرون بإيمانه.. ولما استشهد على أثر جرح أصيب به في الخندق، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله في تشييعه حاسراً حافياً وقال: (إن الملائكة تشيّع سعداً) ثم أنزله بنفسه إلى القبر ولحّده فما لبثت أم سعد أن قالت: (يا سعد، هنيئئاً لك الجنة)، لما رأته من اهتمام النبي، فإذا برسول الله يقول: (يا أم سعد، مه، لا تجزمي على ربك..).
في الدائرة المذهبية:
وهكذا في الدائرة المذهبية الواحدة، فقد نهى الأئمة عليهم السلام أتباعهم عن اتخاذ المواقف العنيفة ضد بعضهم البعض بسبب الاختلاف في مستوى المعرفة الإيمانية، ومن ذلك:
1ـ عن عبدالعزيز القراطيسي: (قال لي الإمام الصادق عليه السلام: يا عبدالعزيز، إنَّ الإيمانَ عشرُ درجات بمنزلة السُّلَّم، يُصعَد منه مِرقاة بعد مِرقاة، فلا يقولنَّ صاحبُ الإثنين لصاحبِ الواحد لستَ على شئ، حتى ينتهي إلى العاشر. فلا تُسقِط مَن هو دونك، فيُسقِطُك مَن هو فوقَك. وإذا رأيت مَن هو أسفلَ منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملنّ عليه ما لا يُطيق فتكسره فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبرُه).
2ـ وعنه عليه السلام: (ما أنتم والبراءة؟! يبرأ بعضُكُم من بعض. إن المؤمنين بعضُهم أفضلُ من بعض، وبعضُهم أكثرُ صلاة من بعض، وبعضُهم أنفذُ بَصَراً من بعض، وهي الدرجات، حيث قال تعالى: [هُم دَرَجاتٌ عِندَ الله]).
ـ وعن عمار بن أبي الأحوص قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عندنا قوماً يقولون بأمير المؤمنين، ويفضّلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولاهم؟ فقال لي: نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ولرسول الله ما ليس عندنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم؟ إن الله وضع الإسلام على سبعة أسهم: على الصبر والصدق واليقين والرضا والوفاء والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس... فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم... فتُثقلوهم وتنفِّروهم، ولكن ترفّقوا بهم وسهِّلوا لهم المدخل... أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وإن إمامتنا بالرفق والتأليف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه).
رفق ورحمة:
إن مدرسة الإسلام التي تجلّت في نهج أهل البيت عليهم السلام هي مدرسة الرحمة والرفق ورحابة الصدر، لا مع الذين يوافقونها فحسب، بل حتى مع الذين يخالفونها، ومن هنا كانت الساحة الثقافية والساحة السلوكية لقادة هذه المدرسة ولأتباعها مفتوحة على عناوين المحبة وصفاء المشاعر ولين الجانب، بل وحتى مواجهة الإساءة بالإحسان وهو ما دفع كلَّ منصف لقبول الحق أو للتراجع عن موقفه الصدامي تحت عنوان: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].