شجاعة الزهراء

عُرّفت الشجاعة بأنها: (الجرأة والإقدام وشدة القلب عند الشدائد وبالتالي التغلب على رهبة الموقف).. وحين نتحدث عن الشجاعة فإننا لا نتحدث عن ساحات القتال، فهناك شجاعة الكلمة، والشجاعة العلمية حيث تطرح قناعتك العلمية وإن خالفت الرأي المشهور، والشجاعة الأدبية حين تعتذر من خطأ ارتكبته، وشجاعة الموقف حين تكون منصفاً ولو من نفسك وأقربائك، وغير ذلك.
عدة عناصر:
وبهذا المفهوم للشجاعة تتداخل عدة عناصر لتكوّن هذه الصورة.. الهدف المحرِّك، والصبر والثبات، القوة النفسية التي تفعّل القوة الجسدية.
وقد يتصور البعض أن الشجاعة تعني الانجرار وراء العاطفة، ولكن الحق أن تكامل صورة الشجاعة لا يتحقق إلا من خلال دور القوة العقلية التي توجّه القوة النفسية نحو الهدف وتضبط حركتها لئلا يتحول الإنسان من موقع الشجاعة إلى موقع التهور أو العدوان والبغي أو غير ذلك.
سيرة الزهراء:
وحين نعود الى سيرة الزهراء عليها السلام نجد الشجاعة بعناصرها ومقوماتها حاضرة في شخصيتها بكل وضوح، لاسيما في خطبتها التي واجهت بها المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبيّنة لهم جملة من الحقائق.
وتتضح الصورة أكثر حين نسترجع حقيقة أنها وقفت ذلك الموقف الشجاع وهي في ريعان الشباب، وفي محضرها كل الأسماء الكبيرة بعناوينها من صحابة رسول الله، فلم يغير ذلك من موقفها شيئاً.
يقول الكاتب المصري توفيق أبوعلم وكيل وزارة العدل الأسبق، والمسؤول عن حرم السيدة نفسية بمصر في كتابه (أهل البيت): (أوتيت الزهراء رضوان الله عليها كسائر أهل البيت حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة. فكلامها متناسب الفِقر، متشاكل الأطراف، تملك القلوب بمعانيه، وتجذب النفوس بمحكم أدائه ومبانيه، فهي في البيان من أغزر القوم مادة، وأطولهم باعاً وأمضاهم سليقة وأسرعهم خاطراً، وإنه ليتبين ذلك خاصة في خطبتها وكلامها في بيعة أبي بكر، وخلافها معه بشأن فدك).
عناصر شجاعتها:
أما الهدف من موقفها الشجاع فقد كان واضحاً وهو نصرة الحق المتمثل في موقف زوجها الإمام علي عليه السلام.. وأما الصبر والثبات فقد كانا عنوان موقفها الذي ما تغيّر حتى ودّعت هذه الدنيا الفانية.. وأما القوة النفسية التي تفعّل القوة الجسدية فقد تجلّت في شخصيتها، وانعكست في كلماتها.
ولو أخذنا المقطع التالي من خطبتها لبان لنا ذلك بوضوح قالت عليها السلام: (كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ، أوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً ، مُجِدّاً كادِحاً، وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ).
مبادئ راسخة:
ويضاف إلى ما سبق أنها لم تتخلّ عن قيمها ومبادئها وعفّتها وحيائها لتُقدِم على تلك الخطبة، بل كما ذكر النص أنها: (لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَغَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها).
وفي هذا رد بليغ على الذين يعتبرون أن التزام المرأة الستر الشرعي سيعيقها عن أداء مسؤولياتها في الحياة، وعن اتخاذ المواقف الشجاعة في الظروف العصيبة.
ملهمة النساء:
لقد كانت السيدة الزهراء عليها السلام بذلك، الملهِمة لمن خلفها من النساء، إذ اقتدين بها في مواقف شبيهة واجهن بها الظلم والباطل بكل شجاعة.. في موقف العقيلة زينب عليها السلام في محفلي ابن زياد ويزيد.. وفي موقف الصحابية الجليلة أم الخير البارقي التي كانت تقف في وسط المقاتلين في صفين تهاجم خصوم الإمام عليٍّ بأعنف القول، و تحث مَن كان في جيش الإمام عليه السلام علَى نصرته قائلة: (أيّها الناس إلى أين تُريدون رحمكم الله عنِ ابن عمِّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وزَوجِ ابنتِه وأبي ابنَيه؟! .. ها هو مُفلِّقُ الهام ومُكسِّر الأصنام، إذ صلّى والناسُ مُشركون، وأطاع والناسُ مُرتابون).
ولما أمر معاوية بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام بجلبها إليه، مذكِّراً إياها بكلامها في صفين خوّفها بالقتل فقالت: (والله، ما يسوءني يا ابن هند أن يُجري الله ذلك على يدِ مَن يُسعدني الله بشقائه).
الشهيدة بنت الهدى:
وهكذا ألهمت الزهراء عليه السلام في عصرنا هذا الشهيدة بنت الهدى آمنة الصدر أخت الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر، التي عملت مع أخيها في النشاط الدعوي من خلال الحوزة النسائية والتأليف، وثبتت معه في مواجهة صدام وزمرة البعثيين، فحُبِسَت، فكانت بحسب شاهد عيان تتلو قوله تعالى وهي تتلقى أصناف التعذيب: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا).. حتى إذا أدخلت على المقبور صدام بدأت تتلو آيات من القرآن الكريم مما أثار سخطه، فأمر بقتلها.
ولما كُشف عنها بعد ذلك وُجدت آثار التعذيب وقد أحرق شعر رأسها بشكل كامل، وظهرت بقع الحروق والجراحات العميقة في جسدها.. ويضيف مساعد مدير الأمن السابق في النجف الأشرف: (حينما جاءوا بجثمان العلوية أخذني الفضول لأرى وجهها.. وما أن فتحت القناع حتى سرَت في جسمي قشعريرة، ووقف شعر جسدي هيبة ورهبة مما جعلني أعيد القناع على ذلك الوجه الذي شع نوراً قتل به فضولي وشل يدي.. أحسست حينها أنها والله فاطمة أو زينب).
السلام عليك يا مولاتي يا سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا مولاتي يا بنت خير البرية، السلام عليك يا مولاتي يا زوجة ولي الله، السلام عليك يا مولاتي يا أم الحسن والحسين، السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة، السلام عليك أيتها الرضية المرضية، السلام عليك أيتها الفاضلة الزكية، السلام عليك أيتها التقية النقية، السلام عليكِ وعلى من سِرْنَ معك في درب طاعة الرحمة، فلقين الله مؤمنات صالحات عفيفات طاهرات.