بر الوالدين

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا) [الإسراء:23-25]
إذا كان الله هو السبب الأعمق في وجودنا، فنتفاعل مع عبادته التوحيدية من خلال صور طاعته، فإن الله سبحانه يوجّهنا إلى الإحسان إلى الوالدين، بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة والشعور الذي يفيض بالرحمة والتواضع، حيث يستذكر احتضانهما له في طفولته، وكل تلك المعاناة وكل ذلك التعب الذي تجلّى في رعايته دون مقابل، سوى أن يشهدا حياة ولدهما تتكامل وتلتذ وترتاح.. وإذا أراد الإنسان أن يجسّد صورة من صور الطاعة لله، فإن الله يوجّهه إلى الإحسان إلى الوالدين، فالوالدان يمثلان السبب المباشر في وجودنا.
وإذا كان الله هو الذي أنعم علينا بكل النعم التي جعلت لحياتنا قوّةً واستمراراً، فإن الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهدٍ ومعاناةٍ وتضحيةٍ في سبيل تحقيق عناصر الامتداد في عمق وجودنا.
وإن كان تقدّم السن بأحد الوالدين أو بهما يؤدّي إلى اختلال المزاج، وسوء الخلق، وضيق الصدر، فعلينا أن نراقب تصرفاتنا وردود أفعالنا جيداً، لئلا يصدر منا شئ من الإيذاء، حتى بمثل التعبير بـ (أف)، وأن نستعيض عن ذلك بالكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان، وما هو مصداق القول الكريم بحسب التعبير القرآني.
بل إن الله سبحانه يطلب منا أكثر من ذلك.. أن نجمّد حسّ الكرامة في أنفسنا تجاه الوالدين، وأن نشعر بالذل الناشىء من الشعور بالرحمة لهما، فنتحمل منهما ما لا نتحمله عادة من الآخرين، ونتنازل لهما عمّا لا نتنازل عنه للآخرين، ونعيش العفو والتسامح معهما إن أخطئا في حقنا.
وإن دعتنا أنفسنا لغير ذلك، وأخذتنا العزة، فعلينا أن نسترجع تاريخهما معنا، ونستذكر كل تضحياتهما من أجلنا، لتهفو نفوسنا وترقّ وتلين وتنساب بالخير والمحبة والسماح، ولترتفع أيدينا ابتهالاً إلى الله تعالى كي يرحمهما ويغفر لهما خطيئاتهما، اعترافاً منا بالجميل، وتجسيداً لواقع إنسانيتنا، وليكون ذلك مصداقاً من مصاديق عبوديتنا وطاعتنا لله عزوجل.
وما أجمل كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأبويه كما جاء في الصحيفة السجادية، ومنه: (اللهم صل على محمد وآل محمد، وَاخْصُصِ اللَّهُمَّ وَالِدَيَّ بِالْكَرَامَةِ لَدَيْكَ، وَأَلْهِمْنِي عِلْمَ مَا يَجبُ لَهُمَا عَلَىَّ إلْهَاماً، أللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وَأَبَرُّهُمَا بِرَّ الأُمِّ الرَّؤُوفِ، وَاجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وَبِرِّيْ بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ. أللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي، وَأَطِبْ لَهُمَا كَلاَمِي، وَأَلِنْ لَهُمَا عَرِيْكَتِي، وَاعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي، وَصَيِّرْنِي بِهِمَا رَفِيقاً، وَعَلَيْهِمَا شَفِيقاً.(