تعديل معايير التقييم - الشيخ علي حسن - لندن


هل نحن نعتمد فعلاً المعايير الصحيحة في تقييم الناس؟ سواء من حيث اختيار المعايير، أو من خلال ترتيب ما هو مقدّم منها وما هو مؤخَّر؟ فلكل إنسان تميّز في جانب أو في أكثر، سواء من الناحية العقلية أو الجسدية أو العلمية أو الاعتبارية الاجتماعية أو غير ذلك، ومن خلال ذلك يُقيَّم، ومن خلال ذلك أيضاً قد يكسب مكانة بين الناس، وقد تكون متفاوتة من وسط إلى وسط، فالشخص المتميز علمياً تكون له مكانة بين المهتمين بالعلم، والمتميز رياضياً تكون له مكانة في أوسط المهتمين بالشأن الرياضي العام أو المحدد، وهكذا.
خطأ أول:
وأحياناً قد لا يكون للإنسان دور في اكتساب هذا التميز، كالمولود بملامح جميلة، أو في أسرة حاكمة، أو بنسب شريف، إلخ.. ولكن يبقى أن الناس تعطي لهذا التميز قيمة، وقد يكونون مخطئين في ذلك، فمن المفترض عادةً أن لا تكون للميزة المكتسبة دون اختيار قيمة بحد ذاتها، ما لم يُشفعها الإنسان من عنده بما يدعمها.
خطأ ثان:
وأحياناً يكون الخطأ عندنا في ترتيب أسس التقييم، حتى أننا نخالف بذلك وجداننا.. فكثير منا في وجدانه تنخفض عنده قيمة الإنسان المتميز في مجالٍ ما، فيما لو كان سئ الخلق، سواء أكان المقيَّم عالماً في الدين أو في علوم الدنيا.. قائداً فذاً كان، أو شخصية اجتماعية مرموقة، أو رياضياً مشهوراً، أو غير ذلك.
الصورة القرآنية:
ونحن إذا رجعنا إلى القرآن وجدناه يؤكد على ذلك بالصورة التالية: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران:159] وكأن مضمون الآية يرشد إلى أن كل جهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت ستذهب سدىً لو لم يكن بهذا الخلق الرفيع، لأن الوسط الذي يعمل النبي على تغييره هم الناس، فلو انفضوا من حوله، فبمن سيؤثِّر؟ وكيف سيحقق رسالته؟
إن هذا يؤكد على أن الناس ينجذبون إلى صاحب الخلق الرفيع، ويفرّون من الفظ غليظ القلب، ومن هنا نقول أن الأخلاق لها أولوية في تكوين وتشكيل مكانة الإنسان في المجتمع ومقبوليته بين الناس، حتى على درجة النبوة، فكيف ببقية الكفاءات والقدرات؟! ولربما كان تقديم عنصر الأخلاق على التديُّن في خصوص إقامة العلاقة الزوجية في الحديث النبوي: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) دليلاً آخر على ضرورة إعادة النظر في معيار تقييم الآخرين في بعض المواضع.
تقييم علماء الدين:
في الخبر الصحيح سنداً عن معاوية بن وهب قال: (سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم)، فقيمة هذا الإنسان مهما ارتفعت علمياً، ستذهب سدىً بسبب التجبر الذي يستتبع سوء الخلق في عدة نواح.
وأستذكر هنا في قراءةٍ لي لكتاب (أعيان الشيعة) للعلامة السيد محسن الأمين رحمه الله وهو يترجم لأحد العلماء الكبار، بعد أن يصف علمه، قال ما معناه: (ولكن في خلقه زعارة). وكأن القارئ حين يصل إلى هذا الاستدراك تنمحي كل إيجابيات الصورة والوصف السابق.. وما ذاك إلا لأن الوجدان الإنساني قائم على ذلك.
إنصاف الموقف:
وأكثر من ذلك.. فقد تختلف مع إنسان، وقد تتنازع معه حول أمر، ولكن حين تشهد منه قيمة أخلاقية صادقة، فإنك لا تملك إلا أن تحترم ذلك الموقف، وبالتالي تقدِّر له تلك الصفة التي تجلّت، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في شأن ابنة حاتم الطائي الأسيرة: (خلّوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق. فقام أبوبردة بن نيار فقال: يا رسول الله، الله عزوجل يحب مكارم الأخلاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق!). وفي حديث نبوي آخر: (إنَّ العبدَ لَيبلغُ عَظيمَ دَرجاتِ الآخرَة بحُسنِ خُلقِه، وإنَّه لضعيفُ العبادَة).
موقف البابا:
بابا الفاتيكان قدم استقالته من موقعه كحبر أعظم للكاثوليكية، فهو على الرغم مما يؤخذ عليه في مواقفه وتصريحاته ـ خاصة فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين ـ وفي إدارته للملفات عموماً، إلا أن الإنصاف يستدعي أن يُحتَرم ويُقدَّر له هذا الإعلان الذي جاء وفق بيانه إدراكاً منه بأنه لا يستطيع النهوض بمهامه بسبب كبر السن وضعفه.
والأمر الآخر الأهم أنه قال: (في عالمنا اليوم، الذي هو عرضة لتغيرات هائلة، ويهتز بأسئلة ذات صلة عميقة بحياة الإيمان. فلكي تحكم قارب الكنيسة البطرسية، وتنادي بالإنجيل، فإن قوة العقل والجسد ضروريتان. القوة التي وهنت وتدهورت في الشهور القليلة الماضية، إلى الدرجة التى أدركت فيها عدم قدرتي على  الوفاء بالتزاماتى الموكلة إلى لإدارة شئون الكنيسة).
وهو إن كان صادقاً فيما قاله من أسباب الاستقالة فهذا يؤكد إخلاصه لعقيدته، وأنه صاحب رسالة، وإن اختلفنا معه فيها. وهو ما يستدعي الاحترام أن يتنازل الإنسان الذي يملك هذا الموقع الحساس حين يجد نفسه غير قادر على أداء المهام المنوطة به.
مقارنة بسيطة:
الآن تعال وانظر إلى ما عندنا، وبأقل من هذا المستوى، حيث تجد من يتبوأ منصباً دينياً بسيطاً في مسجد هنا أو في مركز ديني هناك، ويضعف عن أداء وظائفه، وبالكاد يؤديها.. فإنك تجده لا يتخلى عن موقعه، ولا يسمح لأحد بأن يُعينَه في المهمة، وكأن المسألة شخصية.. وكأن المنصب إرث شخصي لا علاقة له برسالة مقدسة يحملها الإنسان.. وعلى هذا فقس الحال في المجال المدني، مع المدراء ووكلاء الوزارة وسواهم..
موقع الأخلاق:
إن الأخلاق في المفهوم الإسلامي تمثّل أحد الأهداف الكبرى التي انطلقت الرسالة الإسلامية كلها لإتمام حركتها، وإذا كانت كلمة الأخلاق تنطلق من طبيعة السلوك الإنساني الفردي أو الاجتماعي تجاه النفس وتجاه الآخرين وتجاه الحياة بشكلٍ عام،  فإنّ المسألة تغدو في صلب عمل وحركة الرسالات التي انطلقت لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتمثّل ركيزة أساسية وذات أولوية في عملية التقييم التي نحتاجها في تفاعلنا مع قضايا الحياة.