أعيادنا الوطنية .. وقفة للتأمل - الشيخ علي حسن


(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].
جاءت الآية لبيان السنَّة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس، أي أن لصلاح حالهم أثراً في تقدير أرزاقهم، ولذا فإنه يُضيَّق على الإنسان في الرزق دائماً، أو أحياناً، من باب الرحمة والرفق به، على خلاف ما قد يتصوره الإنسان من أن هذا يمثّل نوعاً من العقوبة الإلهية.
فما هي المفاسد المتصورة في بسط الرزق على الناس والتي تلخصها كلمة (لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ)؟
الركون إلى الدنيا:
أول مفسدة يمكن تصوّرها هنا هي الركون إلى الدنيا والمادة بصورة تُنسي الإنسان الموت والنشأة الأخرى والخالدة التي تنتظره، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ)[الواقعة:45-48].
وهذا الركون إلى الدنيا والمادة يدفع الإنسان إلى البغي والعدوان على الآخرين بدافع الأنانية من جهة، ولغفلته عن الحساب الأخروي من جهة أخرى، ومن صور ذلك العمل على تدمير منابع الرزق عند الآخرين خوفاً من المنافسة: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ:18-19].
محاربة الإصلاح:

المفسدة الأخرى هي مواجهة الدعوات الإصلاحية المخلِصة، خوفاً من فقدان المصالح المادية الدنيوية التي تكون عادةً مبنيّة على الفساد والعدوان على حقوق الآخرين والاستئثار بمنابع الرزق: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ)[سبأ:34].
الأوهام القاتلة:
ومن المفاسد أيضاً، الاعتقاد الداخلي بوجود امتياز شخصي له عند الله من خلال هذا الرزق الممتد، فقد جاء في تتمة الآية السابقة: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ، وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)[سبأ:35-38].
استدراج ومكر:
قد يقول قائل: ولكننا نشهد الترف الممتد الذي يعيشه البعض، وبغيهم الناتج عن بسط الرزق هذا؟
والجواب عن ذلك أن علينا أن لا ننسى أن لله سبحانه سنة أخرى، تتمثل في أن الإنسان متى ما أصر على الكفر والبغي، فإن الله يستدرجه ويمكر به حتى يلقى مصيره البائس: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[آل عمران:178].
الكويت ومشاريع الخير:
إن مما يحسب للكويت منذ ستينيات القرن الماضي وفي بداية نهضتها أنها مدّت يد العون للكثير من الدول لمساعدتها في المجالات المختلفة من خلال الصناديق التي أسستها والمشاريع الاستثمارية التي أقامتها، سواء لإقامة الجامعات أو المدارس أو المستشفيات أو المساجد أو الطرق ومحطات الكهرباء وغيرها كثير.
ويأتي هذا على عكس ما تقوم به بعض الدول التي ما إن تشهد طفرة مالية حتى تشرع في استخدام ذلك البسط في الرزق من أجل بث الفتن وخلق الصراعات بين الدول والكيانات لأغراض معينة، بما ينطبق عليه العنوان الوارد في الآية (لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ).
احتفال وتأمّل:
إن علينا ونحن نعيش الأعياد الوطنية أن لا نستغرق في الأجواء الاحتفالية بصورة تُنسينا التفكير بما يديم الخير والنعمة ويحقق التنمية والبركة وفق القاعدة القرآنية: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) من خلال دراسة أوضاعنا، وتقييمها وتثبيت ما هو من مصاديق الشكر لله، والعمل على اقتلاع ما يمثّل الكفر بنعمه، لأن الله سبحانه يقول بعد ذلك: (وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7]، ومن هذا العذاب أن يسلب الله الأمن والرزق وقد قال سبحانه: (وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)[سبأ:15-17] ثم قال: (وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ:19].
هذا على المستوى العام، وأما على المستوى الفردي، فإن على الإنسان المؤمن متى ما سعى وبذل وسعه لكسب الرزق والتوسعة على نفسه وعياله ولم يتسنّ له ذلك، إن عليه أن يفوّض أمره إلى الله الحكيم في تقدير الأرزاق وبسطها، وأن يدرك أن ذلك من تجليات الرحمة الإلهية بعبده، بصورة أو بأخرى. كما أن على كثيرٍ منّا ممن بات يعيش وفرة مالية في السنوات الأخيرة أن يستحضر هذه الآية ودلالاتها كي لا يغفل عن مسؤوليته تجاه هذا البسط في الرزق بما يدفعه إلى البغي في الأرض، ولو بصور مصغّرة وفي دوائر محدودة.