مفهوم العلم والعلماء في القرآن 3 من 3 د. علي حسين عبدالله


من هم العلماء؟
أستطيع القول من بعد تعريفنا للعلم وهذا التوسع الموجود في القرآن في مفهوم العلم أن أخرج بنتيجة أن العالم هو الإنسان الملم بأي علم، ولكنه يجمع مع علمه تقوى تجعله يخشى الله ويجد في علمه آيات، أي علامات ودلائل تربط علمه بخشوعه للخالق حتى يعيش فعلاً خلافة الله في الأرض. ولا يهم إن كان هذا العلم دينياً أم غير ديني، لأنه من الممكن أن يكون العلم علماً بالدين، والحامل لهذا العلم لا تقوى له.
الآية التالية صريحة في الدلالة على ما سبق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[التوبة:34]. ومن المعلوم أن الأحبار والرهبان عندهم العلوم الدينية (اللاهوت مثلاً) ولكن الله ذكر فساد أكثرهم وأنهم يصدون عن سبيل الله. فالله يخبرنا بأن كثيراً من هؤلاء يصدون عن سبيل الله ويأكلون أموال الناس بالباطل!
الآية الأخرى التي تؤكد الفكرة السابقة ما ورد في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ)[الشعراء:197]. حيث تتحدث ـ كما في التفاسير ـ عن مجموعة من أحبار اليهود أسلموا في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واعترفوا بأنه مبشر به في كتبهم.. ومن هنا أطلق عليهم القرآن عنوان (العلماء) لتقواهم.
في تفسير ابن كثير: (أَيْ أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ مِنْ الشَّاهِد الصَّادِق عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاء مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل يَجِدُونَ ذِكْر هَذَا الْقُرْآن فِي كُتُبهمْ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا وَالْمُرَاد الْعُدُول مِنْهُمْ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ صِفَة مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وَمَبْعَثه وَأُمَّته؟).
وهكذا نجد أيضاً ذكر (العالم) في القرآن ولكنه في هذه المرة لعالم بالطبيعة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)[فاطر:27-28].
فالعلماء هنا هم الذين يعرفون آيات الله، وفي حقيقة الأمر لو دقق كل عالم في أي تخصص من العلوم الحديثة في دقة الكون من جميع جوانبه لصرخ صرخة مدوية أني أشهد لهذا الخالق بالعظمة والحكمة! لأنه من يعمل في الحقل العلمي ـ سواء في المادة الجماد أو الكائنات الحية الدقيقة منها أو الكبيرة ـ يرى بوضوح كيف تعمل قوانين الخالق في هذا الكون لتملكته الرهبة والتقدير العظيم.
والنتيجة أن العلم في القرآن ليس نوعاً واحداً، بل أنواع مختلفة، وأنه من الضروري أن يقترن العلم بالتقوى كي يستحق إطلاق صفة (العالم) على الباحث والمتخصص في هذا المجال أو ذاك، و ليس بالضرورة ـ وفق المفهوم القرآني ـ أن يكون من يمتلك المعلومات الدينية (عالماً)، مهما كانت الشكليات التي مر من خلالها هذا الشخص للوصول إلى السلطة الدينية، مثل الرهبان والقساوسة وغيرهم.. بل المهم وجود عنصر التقوى.. ومن لا يتوفر فيه هذا العنصر، لا يطلق عليه القرآن عنوان (عالم).. في المقابل فإن من يعرف علماً خارج نطاق المعرفة الدينية، ولكنه يتأمل ويخشى الله من خلال علمه هذا، فإنه يعتبر (عالماً) وفق المفهوم القرآني.
إن مقصد الشريعة في دعوتها إلى العلم بمعناه الشامل هو رفع مستوى الإنسان بالتقوى، لأن تقييم الإنسان عند الله وفق الطرح القرآني هو التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13].