الزواج المدني 1 من 2 جعفر محمد حسين فضل الله

النظرة الشرعية إلى الزواج المدني مسألة خاضعة لتفصيل دقيق تبعاً للشروط القانونية التي ينظر إليها كلّ تشريع، فضلاً عن الرؤية التي ينبغي أن تحكم مسار التشريع ككلّ؛ وسنحاول التعرّض لذلك ضمن الآتي:
1ـ عندما يُقال بأنّ الزواج في الإسلام مدنيّ، فالمراد الإشارة إلى أنّه لا يُشترط ـ في التشريع الإسلامي ـ إجراء الزواج عند رجل دين، أو في المحاكم الشرعية، بل هو مسألة قائمة بين المتعاقديْن؛ إذ يُمكن إجراؤه بينهما، ويُمكن إجراؤه أمام أيّ شخص، بغضّ النظر عن مسألة الشهود واشتراطها. وعادةً ما تُطرح مدنية الزواج في الإسلام في مقابل ما هو معروف في الزواج المسيحي، الذي هو سرٌّ من أسرار الكنيسة، فلا يصحّ إلا كهنوتياً.
2ـ لا يعني القول بأنّ الزواج في الإسلام مدنيّ أنّ أيّ زواجٍ يُجرى مدنياً هو زواجٌ شرعيّ؛ بل قد يكون شرعياً وقد لا يكون، تبعاً لمدى تحقّق الشروط المعتبرة في العقد؛ وهي على نوعين:
أ‌. شروط بنيوية، بمعنى أنّه لا يصحُّ العقد من دونها، وتُعدّ العلاقة تبعاً لاختلال هذه الشروط علاقة غير شرعية؛ وهي المرتبطة بصيغة العقد (الإيجاب والقبول) من جهة، ومواصفات العاقدين، من جهة ثانية.
ب‌. شروط غير بنيوية، بمعنى أنّها تمثّل التزامات لا تمنع من صحّة العقد إذا تحقّقت الشروط البنيويّة؛ لكن ـ مع ذلك ـ لا يجوز للمُسلم الالتزام بها ولا تطبيقها؛ لأنّها مخالفة لالتزاماته الشرعية.
الشروط البنيوية:
هنا نواجه عدّة أمور:
أوّلاً: لا يُمكن أن يكون هناك عقدٌ صحيح من دون صيغة تعاقدية؛ والمُشكلة المطروحة بين مشروع الزواج المدني والفقه الإسلامي هي في وجهتين:
1ـ وجهة فقهية ترى أنّ للزواج صيغةً محدّدة، بمعنى أنّها تشترط ألفاظاً محدّدة، وأن تتمّ الصيغة لفظاً لا كتابة، إلا لمن لا يقدر على اللفظ كالأخرس مثلاً. وهذا الأمر موضع تبنٍّ من شريحة واسعة من العلماء وأئمّة المذاهب، سنياً وشيعياً.
2ـ وجهة فقهية يذهب إليها المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (ره)، ترى أنّ الزواج يُمكن إنشاؤه بكلّ لفظ يدلُّ على الالتزام العقدي بإنشاء الزوجية، بحيث يعبّر عن حالة إرادية إلزامية للطرفين تماماً كأيّ عقد من العقود التي يعقدانها في معاملات أخرى، كالبيع والإجارة وما إلى ذلك، بل يُمكن افتراض ـ ضمن هذه الرؤية ـ أن تكون الكتابة وسيلةً لإنشاء الزوجية إذا تحوّلت في العُرف العام إلى مُبرز صريح لإنشاء الزوجية بالمعنى التعاقدي.
انطلاقاً من الوجهتين السابقتين؛ فإنّ صيغة الزواج المدني المطروحة تواجه مشكلة لدى أصحاب الاتّجاه الأوّل، وتكتسبُ كصيغةٍ ـ بغضِّ النظر عن الشروط الآتي ذكرُها ـ شرعية في إنشاء الزواج بها، مع تحوّلها إلى صيغة إنشاء للزوجية في العُرف العام للناس.
كما أنّه، في إجراء الصيغة هناك فرقٌ أيضاً بين العقد وتوثيقه؛ ففي الشرع الإسلامي يُمكن اعتبار أيّ عقد مستوفٍ الشروط شرعياً حتّى لو لم يتمّ عند الموظّف المختصّ، مدنياً أو شرعياً، بتوثيق العقود؛ بل لو أجراه الطرفان ـ مع استيفاء الشروط الشرعية ـ نفساهما فتنشأ الزوجية بينهما ولا يُعدّ الزواج باطلاً، لكنّ المشكلة حينئذٍ في توثيقه، وهي مسألة أخرى.
ثانياً: ديانة الزوجين؛ حيث يرى التشريع الإسلامي أنّ زواج المُسلمة بغير المُسلم باطلاً شرعاً، وكذلك زواج المسلم بغير المُسلمة وبغير الكتابية (اليهود والمسيحيّين خصوصاً) يُعد باطلاً، حتّى لو تمّ عقدُهُ أمام رجل دين؛ لأنّ رجل الدين أو قاضي الشرع لا يملك أن يشرّع إلا ضمن الشرع والقانون الإسلامي؛ ومع اختلال أحد الشروط البنيوية يُصبح الزواج غير قابل للقوننة شرعاً.
ثالثاً: علاقة القرابة؛ وذلك بأن لا يكون بين الطرفين علاقة قرابةٍ نسبية (كالأبوّة والأمومة والأخوّة والبنوّة...)، أو بالمصاهرة (كأبّ الزوج، أو أمّ الزوج...)، أو بالرضاعة، أو بأحد الأسباب الموجبة للتحريم المؤبّد، ممّا وردت تفصيلاتُه الشرعية في الفقه الإسلامي.
رابعاً: اختلاف الجنسين؛ فلا يُباح الزواج المثلي بأيّ شكل من الأشكال.
خامساً: هناك شروطٌ هي محلُّ جدل في الفقه، وهو اشتراط إذن الوليّ في زواج الفتاة البكر؛ بين نظريّة تشترطه مُطلقاً، ونظريّة ـ يتبنّاها المرجع الراحل فضل الله (ره) ـ وهي عدم اشتراط إذن الوليّ إذا كانت الفتاة بالغةً راشدة. وقد يكون هناك توقّفٌ في مسألة المهر، وإن كانت هناك وجهة نظر فقهية أنّ عدم ذكره في العقد لا يمنع من صحّة العقد؛ لكن يثبت تقديرٌ معيّن للمهر بحسب المتعارف عليه.
الخلاصة ممّا تقدّم، يتّضح أنّه إذا كان الطرفان مستوفيين الشروط البنيوية المُعتبرة شرعاً، وبناءً على أنّ كلَّ صيغة تكتسبُ صفةَ الدلالة العامّة على إنشاء الزواج، هي صيغة زواج شرعية، يُعدّ عقدُ الزواج مدنياً مُنشئاً للزوجية بين الطرفين، ويترتّبُ عليه كلّ الآثار الشرعيّة من حيثُ صحّة النسب خصوصاً؛ ولا يُعد زواجاً شرعياً كلّ زواج فاقد أحد الشروط البنيوية، سواء الراجعة لمواصفات الزوجين أو الصيغة (على التفصيل المتقدّم)، حتّى لو عقده رجل دين أو جهة شرعية.
ولا تعني مدنية الزواج في الإسلام شرعنة كلّ المواد المترتبة على الزواج المدني برمّتها، في ما يؤدّي إلى التزام المُسلم بما يُناقض التزامه الشرعي؛ وذلك أمرٌ بديهيّ ينشأ من خلال مجرّد الانتماء إلى الإسلام.
ونعم، نقول هنا إنّه لا تصادم كلّياً بين آثار الزواج المدني وآثار الزواج الشرعي، وهو ما سنتعرّض لبعض نماذجه في المقال القادم بإذن الله.