خطبة الجمعة 19 ربيع الثاني 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الأنبياء بين الشخصانية والرسالية


(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:79ـ80].
ـ في الوقت الذي تتحدث فيه الآيتان عن تطرف البعض في تعظيم الأنبياء(ع)، بلحاظ الانبهار بطاقاتهم الروحيّة الكبيرة، والمعجزات التي كانت تتحقق على أيديهم، وأن ذلك يتعارض مع أوامر الله ونواهيه، إلا أن لللآيتين جانباً آخر يمكن أن يُستوحى منهما.
ـ إذ يمكن أن نستفيد مما سبق أنَّ الأنبياء لم يكونوا يعظّمون صفاتهم الشخصية عند الناس على الرغم من علو مقاماتهم، ولا يتحدثون عن أنفسهم، إلا وفق ما تقتضيه بعض التحديات وفي موارد محدودة جداً.. فالشخصانية غائبة عنهم، والرسالية حاضرة بقوة في حركتهم.
ـ والهدف من ذلك أوّلاً أن لا يوقعوا الناس في مشكلة الغلو والتأليه، بل هم على العكس من ذلك كانوا يعملون على تأكيد جانب البشرية في ذواتهم بشكلٍ صريح مؤكَّد، كقول النبي(ص): (إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).
ـ وهذا من تأدبهم بأدب الله وأوامره، لاحظ كيف يوجّه الله نبيه محمداً(ص) عندما طلب المشركون منه الإتيان بالمعاجز، قال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء:93] أي أنا بشر ومهمتي النهوض بمسؤولية الرسالة، لا القيام بمثل هذه الأمور.
ـ ولعل ذكر القرآن لبعض الحوادث التي ترك فيها الأنبياء ما هو الأولى كما في قصة يونس وداود وموسى وغيرهم إنما هو للتأكيد على الجانب البشري من شخصيتهم وتجنيباً للمغالاة في صفاتهم.
ـ ثم إن الله سبحانه يريد لنا في ارتباطنا بالأنبياء(ع) أن نركز على مسيرتهم وتعاليمهم ومضمون رسالاتهم، فهذا هو الأهم، وهذا ما هدفت إليه الآيات القرآنية وهي تستعرض جوانب من سيرة بعضهم، لأن التركيز على ذلك يحقق الاعتبار، بينما التركيز على الشخوص قد يجعلنا ننسى الرسالة.
ـ لاحظ كيف ركّز النصارى على شخص المسيح(ع)، حتى نسوا منهجه.. فتجد البابا الذي يمثل المسيح وحوارييه يخرج متزيناً بالذهب وكل ما حوله يرمز إلى الفخامة والثروة والإقبال على الدنيا.. فأين هذا من زهد المسيح وتعاليمه في هذا الإطار؟
ـ وإذا كان الله يريد لنا أن نتعامل مع الأنبياء من هذا المنطلق، فمن باب أولى أنه يريدنا أن نتعامل أيضاً مع القيادات العلمائية والدينية والسياسية والحزبية بنفس الطريقة، حتى نتجنب الأخطاء التالية:
1ـ المبالغة في صورة هذه الشخصية بما يخرجه عن الصفة البشرية الطبيعية القابلة للوقوع في الخطأ، والانحراف، وسوء العاقبة..إلخ، وانتقاله إلى الصفة الغيبية الميتافيزيقية التي تحوّله إلى كتلة من الأسرار الغيبية، والسماح لمحبي الشطحات بنسج الكثير من القصص الوهمية حوله.
2ـ إضفاء هالة من القدسية على هذه الشخصية، تمنع أو تجعلنا نتحرج من النقد والاقتراح، فضلاً عن تدوير المواقع القيادية لو كان المنصب قابلاً لمثل هذا التدوير. أو إضفاء حالة من الشعور بعدم بلوغ مستوى هذا الشخص كي يتم نقده أو تصحيح أمرٍ ما من شؤوناته.
3ـ إلغاء دور العقل في تقييم الأوضاع والدراسة الدورية لخط سير هذه الشخصية في تعاطيها مع قضايا الواقع، لأن العقل لا يمكنه الصمود أمام الغيب المفترض أن هذه الشخصية تأخذ أوامرها منه، وبالتالي يمتنع الإنسان تلقائياً عن القيام بهذا الدور تحت طائلة مثل هذا الارتباط، الأمر الذي يفقد حركة هذا العالم أو القيادي أو السياسي عنصراً مهماً في الضبط والتقويم.
4ـ الاستغراق في الشخص نفسه ونسيان المنهج الذي يمثله أو يقدمه، ليتحول الهدف عند (أتباعه) من الهدف الحقيقي إلى الشخص ذاته.
5ـ دفع هذه الشخصية إلى احتمال العُجب بالنفس والتجبر في الرأي والتحول إلى ديكتاتور إن لم يراقب نفسه ويحصّنها.
ـ إن جزء من مشكلة مجتمعاتنا أنها لو انبهرت بزعامة ما، فإنها تتعامل معها بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع المعصومين، في الوقت الذي يحثنا القرآن على أن لا نغالي في أحد، بما فيهم الأنبياء(ع)، كما يحثنا القرآن على أن لا نحوّل العلاقة مع الشخصية الفذّة إلى علاقة شخصية بحتة دون أي شئ آخر، بل علاقة تنبع من الاهتمام بالرسالة التي تحملها هذه الشخصية، والمشروع الذي تعمل على الانطلاق به وترسيخه، لأننا متى ما ركزنا على الشخوص عرّضنا أنفسنا لإضاعة الرسالة التي حملوها، والمشروع الذي من أجله ضحّوا بالكثير والكثير.