وقفة مع دعاء الإمام العسكري 2 من 2 الشيخ علي حسن

تناول الإمام الحسن العسكري عليه السلام في تتمة الدعاء صوراً من الظلم الذي يدمّر المجتمعات، ومن بينها ما جاء في المقطع التالي: (اللهم وقد شمَلَنا زيغُ الفتن، واستولَت علينا غَشوةُ الحِيرة ، وقارعَنا الذلُّ والصَّغار، وحكم علينا غيرُ المأمونين في دينك، وابتزَّ أمورَنا معادنُ الأُبَن) أي المتأصلة فيهم العيوب (ممن عطل حكمك، وسعى في إتلاف عبادك، وإفساد بلادك. اللهم وقد عاد فيؤنا دُولةً بعد القسمة، وإمارتُنا غلبةً بعد المشورة، وعُدْنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة فاشتُريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة ورعى في مال الله من لا يرعى له حرمة، وحَكَم في أبشار لمؤمنين أهلُ الذمة، ووليَ القيام بأمورهم فاسقُ كلِّ قبيلة، فلا ذائدَ يذودُهم عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يُشبع الكبدَ الحرى مِن مسغبة، فهم أولو ضِرع بدارِ مضيعة، وأسراءُ مسكنة، وحلفاءُ كآبةٍ وذلة).
تشويش صورة الحقائق:
(اللهم وقد شمَلَنا زيغُ الفتن، واستولَت علينا غَشوةُ الحِيرة) وهذا أول ما بدأ به الإمام في عرضه لمشكلات ذلك العصر، وكأنه ينبهنا إلى وجود ارتباط بين (الانحراف وهو الزيغ، الفتن والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، عدم وضوح الحقائق وهو الغشوة، الحيرة في الموقف الذي يجب أن يتخذه الفرد).
ولذا أول ما يعمد إليه مَن يريد تسويق الباطل ومن ثم تحكيم الظلم هو تشويش الصورة: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)(آل عمران:7)، وقد تحدث الإمام علي عليه السلام كما في نهج البلاغة عن العلاقة بين هذه العناوين بشكل رائع فقال: (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ. وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هـذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هـذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى).
والكثير من أهل السياسة يعمدون إلى هذا الأسلوب.. عناوين براقة تُفرَّغ من مفاهيمها الصحيحة أو تشوّه مفاهيمها الحقيقية وتُمزَج بالباطل وتقدّم إلى الجمهور على أنها تمثل الموقف الشرعي أو الموقف الوطني، لينساق وراءها مَن ينساق، ليقع الاصطدام مع طرف آخر قدَّم موقفه بالباطل أيضاً وبنفس الأسلوب، وطرف ثالث عرف الحقيقة ويريد الدفاع عنها، وهكذا.. والنتيجة هي وقوع الفتن.
النتيجة المترتبة:
ثم قال الإمام العسكري عليه السلام في دعائه وهو يبيّن نتيجة اعتماد الأسلوب الماضي: (وقارعَنا الذلُّ والصَّغار، وحكم علينا غيرُ المأمونين في دينك، وابتزَّ أمورَنا معادنُ الأُبَن ممن عطل حكمك، وسعى في إتلاف عبادك، وإفساد بلادك).
استئثار بالخيرات:
ثم يقدّم الإمام صوراً أخرى من مفاسد الحكم حين يجور ومنها:
1ـ الاستئثارُ بالموارد الاقتصادية العامة من قبل شريحة معينة، قال عليه السلام: (اللهم وقد عاد فيؤنا دُولةً بعد القسمة) فالملكية الفردية معترف بها في الإسلام، ولكنها محددة بقاعدة: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ)(الحشر:7) وكل وضع وتشريع لقانون ينتهي إلى أن يكون المال مستأثَراً به من قبل شريحة معينة فهو يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية، ولن ينتهي إلا بضرب بُنية الدولة وأسس ازدهارها وبقائها.
ومن المشاكل التي عاشتها بعض الدول التي شهدت ثورات على الظلم والفساد أن الظلم والفساد يعودان ولكن بوجوه جديدة وبعناوين جديدة، وبالتالي فإن المال يعود دولة بين الأغنياء ولكن بوجوه جديدة ومسميات جديدة، ويتم تشريع القوانين وتقام المؤسسات باسم المحرومين، ولكنها تقولب بحيث يستفيد منها أفرادٌ معينون أو حزبٌ ما.. لتبقى المشكلة هي المشكلة، والتخلف هو التخلف، والظلم هو الظلم ولكن بزخارف جديدة، وهذا ما تواجهه اليوم بعض دول ما يُعرف بالربيع العربي.
الاستبداد:
2ـ الاستبداد بالرأي والحكم، وإلغاء دور المجتمع في المشاركة السليمة من خلال المؤسسات أو وسائل الإعلام، أو إقامة تلك المؤسسات ولكن بصورة تُفرغها من دورها الحقيقي في الرقابة والمحاسبة والتشريع، قال عليه السلام: (وإمارتُنا غلبةً بعد المشورة، وعُدْنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة). ثم يبيّن الإمام عليه السلام كيف أن مثل هذا الاستبداد والتلاعب بالأموال العامة يؤدي إلى استنزافها وتوجيهها إلى غير ما يعود بالنفع الحقيقي على المجتمع، قال: (فاشتُريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة، ورعى في مال الله من لا يرعى له حرمة).
المسؤولون غير الأكفاء:
3ـ احتكار المناصب من قبل من لا يملكون الكفاءة والتقوى، ومن نماذج ذلك: (وحَكَم في أبشار المؤمنين أهلُ الذمة) من الذين كانوا لا يخافون الله ولا يعملون بشرعه، بل ينافقون السلطان لمصالحهم أو نقمةً على أهل الإيمان (ووليَ القيامَ بأمورِهم فاسقُ كلِّ قبيلة). أما النتيجة المترتبة على ذلك فكما قال عليه السلام: (فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يُشبع الكبدَ الحرّى من مسغبة، فهم أولو ضرع بدارِ مضيعة، وأسراءُ مسكنة، وحلفاءُ كآبةٍ وذِلّة).
أسس مشتركة:
إن الإمام الحسن العسكري عليه السلام وهو يتحدث عن واقع كان يعيشه الناس قبل أكثر من ألف ومائة سنة إنما يتحدث عن أسس مشتركة لنهضة أي مجتمع أو لانهياره، وهذا ما يجعل إعادة قراءة أمثال هذه النصوص المباركة ذات قيمة عليا، لا تقتصر على تمجيدهم وذكر مآثرهم، أو مجرد كلمات دعاء نستغرق معها في البكاء دون أن نعي دلالاتِها، أو نفعّل مضامينَها في الحياة. وإذا أردنا أن نقرأ واقع الكويت من خلال دلالات ذلك المقطع من الدعاء فيمكننا القول أن الاهتمام بإقامة مؤسسات التأمين الاجتماعي ورعاية ذوي الدخول المحدودة يعد من مفاخر الإنجازات، إلا أنه من الضروري أن لا نغفل عن أهمية المراقبة والمحاسبة والتطوير (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء منكم) وكي لا تتحول تلك المؤسسات إلى بؤر لتنفيع شرائح معينة على حساب الأهداف التي من أجلها شيِّدت، أو أحزاب بعينها على حساب المجتمع، بما يدمِّر أسسَ المجتمع الواحد وقوته وتلاحمه. كما أن وجود المجالس التي يشارك من خلالها الشعب في العمل التشريعي والرقابي، تمثل الوضع السليم في إدارة الدولة، بشرط أن لا تتحول إلى مواقع لتجاذبات الصراع على ثروات البلد والنفوذ السياسي وتصفية الخلافات الحزبية والقبلية والطائفية والمصلحية على حساب التنمية لاسيما في ظل الوفرة المالية التي يسيل لها لعاب الكثيرين ممن يتغنون باسم الكويت في الظاهر، ولا يهمهم سوى مصالحهم الضيقة في واقع الحال. وأخيراً فإن توافر حرية الصحافة والإعلام وتداول المعرفة ـ مع وجود بعض الملاحظات عليها ـ امتيازٌ ثالث يُحسب للكويت الحديثة التي نأمل ألا يُفرّط بها تحت طائلة هاجسٍ أمني، أو ترضية لهذا الطرف أو ذاك.. وحفظ الله الكويت بلد الخير والعطاء.