بايعتُ ذكراك - الشاعر جاسم الصحيح

بايـعـتُ ذكراكَ فانْسابَتْ لها عُنُقي والبيعةُ الحقُّ لا تُلْوَى لها عُنُقُ!
هنا مدائحُ (حسّان) على شفتي تزهو، وفي الروح من أرماقِه رمَقُ
يا صاعداً جبل النور الذي نزَلَت منه الحقيقةُ عبر الأرضِ تنطلقُ
عُدنا إليك من التاريخ نسلكُه حتى (حراء) فلم تسلك بنا الطرقُ
أين الطريق الذي سالت خُطاك به نهْراً على كبد الصحراء يندفقُ؟
أيَّامَ ضَيَّعَتِ الأيَّامُ رحلتَها فلم تَعُدْ خطوةٌ في نَفْسِها تَثِقُ
تبكي التضاريسُ.. لا روحٌ تهدهدُها غير الرياحِ التي في التيهِ تنزلقُ!
والوقتُ جَفَّ من المعنَى، فلا هَدَفٌ في الوقتِ من أجلهِ الساعاتُ تستبقُ
كُلٌّ يُفَتِّشُ عن مجلَى حقيقتِـهِ وليسَ في الأُفْقِ إلاَّ الخوفُ والقَلَقُ
رملُ (الجزيرةِ) ما غنَّى الحُداةُ بهِ إلاَّ وأَوْشَكَ بالأصداءِ يختنقُ
مَنْ ذا يُطَبِّبُ في الإنسانِ جوهـرَهُ ؟ كاد السؤالُ على الصحراءِ يحترقُ!
وأَوْتَرَتْ قوسها الأنباءُ عن نَبَـأٍ في فرحةِ السَّهم حين السَّهم ينعتقُ
مِنْ خارج الأرضِ مَـدَّ اللهُ راحتَهُ نحو الحياةِ ففاضَ البِشْـرُ والأَلَقُ
واختارَ (مَكَّةَ) ماعوناً لرحمتِهِ لا يشتفي طَبَقٌ إلاَّ اشتهى طَبَقُ
فيضٌ من اللُّطفِ لم يُدْرِكْ حقيقتَـهُ قومٌ بِما فاضَ من أوهامِهِمْ شَرِقُوا!
حتَّى إذا الغيبُ جَلَّى سِرَّهُ.. وإذا صوتُ الحقيقـةِ في الآفاقِ منبثقُ
بُشرَى الحياةِ بـرُبَّانٍ.. قد اتَّحَدَتْ بِهِ الخرائطُ وانقادَتْ لهُ الطُـرُقُ
(طـهَ).. ومَنْ غيرُ (طهَ) حين تندبُهُ سفينةُ الخلقِ لا يُخشَـى لها الغَـرَقُ؟!
يا وردةَ الحقِّ ما زلنا نشاركُها سِـرَّ الشَّـذَى فيُحَنِّي روحَنا، العَبَقُ
حَيَّتْكَ في العُمْقِ من أصلابِنا نُطَفٌ جذلَى تَـرَنَّحَ فيها الماءُ والعَلَقُ
واقتادَنا مركبُ الذكرى إلى زَمَنٍ رَبَّاكَ في شاطِئَيْهِ، الحبُّ والخُلُقُ
تـدري (حليمةُ) إذْ دَرَّتْ محالبُها يوماً سيُشْـرِقُ من أثدائِهـا، الفَلقُ
في مُرْضِعاَتِ (بني سعدٍ) مَشَتْ قُدُمـاً يمشـي وراء خُطاهـا الحقـدُ والحَنَقُ!
ماذا عليهـا وقد أهـدَى الخلودُ لهــا نَهْراً تفيـضُ بهِ النُّعمَى وتندلـقُ!!
يا منكـرَ الذاتِ حتَّـى آثَـرَتْ أَرَقاً كي يستريـحَ عبيدٌ شَفَّهُـمْ أَرَقُ
جرحُ النُبُـوَّةِ جرحُ الشمـسِ.. تسكنُـهُ روحُ الجمـالِ.. ومن أسمائِـهِ الشَّـفَـقُ
مِنْ عُزلةٍ لَكَ.. مِنْ حُزْنٍ خَلَـوْتَ بهِ في (الغارِ) مِنْ هاجسٍ ثارَتْ بهِ الحُرَقُ!
مِنْ (بئرِ ماءٍ) ذوَى حُلْمُ الرُّعاةِ بهـا مِنْ خيمـةٍ عاث فيها الطيشُ والنَّـزَقُ!
مِنْ كلِّ ذاكَ الدُّجَـى.. شَعَّـتْ بثورتِهـا عينـاكَ.. وابتدأَ التاريخُ يأتلقُ!
تَزَوَّجَتْ في يديكَ الأرضُ معولَهـا حتَّى تناسـلَ منها الوَردُ والحَبَقُ
فاستيقـظَ الحُلْمُ مزهوًّا بفارسِهِ تَضُمّهُ مقلةُ الدنيا، وتعتنـقُ
ولُحْتَ في موكب التوحيـدِ ممتشـقـاً سيفـاً لغير الهُدَى ما كنتَ تمتشـقُ
تتلو مزاميرَكَ الغرَّاءَ فانبعثَتْ علـى الصـدَى ضابحـاتُ الحقِّ تستبقُ
وتحملُ المشعـلَ الأسنَى بحالكةٍ ظلمـاءَ.. يخبط في أبعادِها الغَسَقُ
يكفي حصانَـكَ من ماءٍ ومن عَلَفٍ نَفْحُ اللهاثِ علـى شِدْقَـيـهِ، والعَـرَقُ
عفـواً نبيَّ الهُـدَى.. عفـواً إذا عَبَـرَتْ جسرَ القوافي إلى فردوسِـكَ، الحُـرَقُ
واعذرْ بياني إذا أبصـرتَ بَذْرَتَـهُ تنشـقُّ عن نبتـةِ الشَّكوَى، وتنفلـقُ
ذكراكَ تُوشِـكُ بالأضواءِ تختنقُ شمسٌ وليس لها في حَجْمِهـاَ أُفُقُ!
أسطـولُ فجـرٍ وراءَ الغـيـبِ مُحْتَجِـبٌ ضاقَتْ بمينائِـهِ الأرواحُ والحَـدَقُ!
مَنْ لي بنجـواكَ والنجـوَى تُؤَرِّقُنـي حَدَّ العـذابِ، وحولــي أُفْقُها نَفَقُ
أُنْبِيكَ: ما زال هذا الكـونُ محكمـةً تقضي بتقطيعِ أيدي غير مَنْ سَرَقوا !
والجرحُ في جوهرِ الإنسانِ ما بَرِحَـتْ دمـاؤُهُ باتِّسـاعِ الأرضِ تندفـــقُ
هَوِّنْ عليكَ فكمْ حاولتَ ترتقُهُ بالمعجزاتِ ولكـنْ ليسَ ينرتقُ
ما ارتابَ خيطُكَ فــي إيمانِ إبرتِـهِ مُذْ وَسَّعَ الجرحَ مَنْ شَقُّـوا ومَـنْ فَتَقُـوا !