خطبة الجمعة 20 ربيع الأول 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الشباب بين العقيدة والسلوك


ـ ونحن إذ نحتفل في هذه الأيام بذكرى مولد إمامنا جعفر الصادق(ع) كما نحتفل بمولد نبينا (ص)، فإننا نؤكد أنّ الله قد منّ علينا بتشرفنا بالانتماء إلى مدرسة هذا الإمام العظيم، والتي تمثل الامتداد لمدرسة جده النبي الأكرم(ص)، وتمثل تبياناً وتفصيلاً للقرآن وللسنة النبوية على مستوى العقيدة والشريعة والأخلاق.
ـ ولذا فإننا نفتخر حقاً بأن يقال لأحدنا: هذا جعفري.. كما يقال لأحدنا هذا مسلم.. ولكن هل سأل شبابُنا اليوم عن مدى مصداقية هذا الانتماء وكيفية تحققه؟ خاصة ونحن نلحظ اتجاهاً عارماً في أوساطهم بالحماسة الشديدة ـ التي تبلغ حد التعصب ـ للانتماء إلى مدرسة علي والحسين وجعفر(ع)، دون أن نجد التزاما عملياً واضحاً بمضامين ورسالة تلك المدرسة وأخلاقياتها ومنهجها على مستوى السلوك.
ـ قد يبرر البعض مثل هذا التعصب، باعتباره سمة لهذا العمر، إلا أن هذا لا يعفي الشباب من المسؤولية (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[القيامة:14-15]، في الوقت الذي نؤكد فيه أن الخطاب الديني أيضاً يتحمل جزء من المسؤولية حين يركّز على أن الانتماء هو الكفيل بالنجاة في الآخرة والتهوين من شأن ما يصدر عن الفرد على قاعدة: (سوّدتُ صحيفة أعمالي ووكلت الأمر إلى حيدر).
ـ من مسؤولية الخطاب الديني أن يقدّم الصورة المتكاملة ويرفع اللَّبس الحاصل عند الشباب، لاسيما وأن
الصورة القاصرة أوفق بالأهواء النفسية.. كما أن من مسؤوليته عدم الدفع نحو المزيد من التعصب.
ـ ومحور المسألة هو: هل يمكن بحال من الأحوال فصل الإيمان عن العمل، والعقيدة عن السلوك؟
ـ عندما نستقرئ آيات القرآن الكريم نجد أنها لا تساعد على ذلك، بل تؤكد عدم الفصل، باعتبار أنه قانون إلهي طوال تاريخ الرسالات السماوية: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً، لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء:122-124].
ـ لاحظ حجم التأكيد على العمل الصالح المقترن بالإيمان وعدم الانفصال بينهما، ولاحظ الأسلوب في بيان امتناع تحقق خلاف ذلك، وأنها مجرد أوهام تسري في أذهان البعض من المسلمين وأهل الكتاب.
ـ ولا يستقيم الفصل بينهما إلا وفق عقيدة الإرجاء التي حاربها أهل البيت(ع). تلك العقيدة التي تعتبر أن النجاة في الآخرة مرهونة بالعقيدة دون العمل، وينقل ابن أبي الحديد عن أستاذه أن (أول من قال بالإرجاء المحض: معاوية وعمرو بن العاص، كانا يزعمان أنه لا يضر مع الإيمان معصية، ولذلك قال معاوية
لمن قال له: حاربتَ مَن تعلم! وارتكبت ما تَعلم! قال: وثقتُ بقوله تعالى: إن الله يغفر الذنوب جميعاً).
ـ وقد روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: (بادروا أولادكم الحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة).
ـ هذه العقيدة تأخذ اليوم صوراً مختلفة، منها ادّعاء أن المهم هو طهارة القلب والروح والفكر، وأما ما يصدر عن الجوارح فهو ليس بذي أهمية، ومن هنا يبرر بعض الشباب عدم التزامهم بالصلاة مثلاً، أو عدم التزام الفتاة باللباس الشرعي، بأنها شكليات والمهم هو المضمون.
ـ ومنها ادعاء كفاية الولاء والحب لأهل البيت(ع)، تمسكاً بدلالة بعض الأحاديث وإهمالاً لدلالة آيات وأحاديث كثيرة تقيّد تلك الدلالة وتضع لها الضوابط.. وقد حذّر أمير المؤمنين(ع) من ذلك حيث قال في خطبة طويلة: (.. فإنّ أمْر النبي "ص" مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله "ص" الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن..).
ـ وقد وقع نفس هذا الوهم من قبل، فقد سئل الصادق(ع): (روي عنك أنك قلت: إذا عرفت فاصنع ما شئت! قال(ع): بلى. قال: وإن زنى وإن سرق؟ فقال له: ما أنصفتمونا أن كُلِّفنا بالعمل ووُضِع عنكم. قال: إذن كيف أقول؟ قال: قل: إذا عرفت فافعل ما شئت من قليل الخير وكثيره فإنه يرجع عليك).
ـ أيها الأخوة والأخوات، أيها الشباب الأعزاء، إن الجعفري الحقيقي هو مَن كان مثل أصحاب الصادق، مثل ابنِ أبي يعفور وأبي كهمس وفضيل سُكَّرة الذين ـ بحسب رواية الشيخ الصدوق ـ بكوا حين رُدَّت شهادتهم من قبل القاضي بسبب انتمائهم إلى مدرسة الإمام جعفر الصادق(ع)، ولما سئلوا عن سبب بكائهم بيّنوا أن ذلك خوفاً من عدم بلوغهم مستوى من الإيمان والعمل الذي من خلاله يستحقون هذا اللقب. الجعفري الحقيقي هو الذي يسعى لأن يكون كما قال إمامه جعفر الصادق(ع) حين قيل له: (إنّا نُعيّر بالكوفة فيُقال لنا جعفريّة، فغضب أبو عبد الله(ع) ثمّ قال: إنّ أصحابَ جعفر منكم لقليل، إنّما أصحابُ جعفرٍ مَن اشتدّ ورعُه، وعمل لخالقه). وأخيراً فإن الجعفري الحقيقي هو الذي يأخذ بوصية إمامه جعفر الصادق(ع) كما في الحديث الصحيح عن أبي أسامة زيد الشحام قال: قال لي أبوعبدالله(ع): (اقرَأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي: السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزوجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار فبهذا جاء محمد(ص).
ادُّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها بَراً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيطِ والمِخيَط، صِلوا عشائرَكم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدَق الحديث وأدى الأمانة وحسُنَ خلقُه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرَني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدبُ
جعفر، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليَّ بلاؤه وعارُه وقيل هذا أدب جعفر،. فوالله لحدّثني أبي(ع) أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(ع) فيكون زينَها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقَهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعُهم، تُسأل العشيرةُ عنه فتقول: مَن مثلُ فلان؟ إنه لآدَانا للأمانة وأصدقُنا للحديث).