النبي الأمّي - الشيخ علي حسن

تحدث القرآن الكريم عن أمية النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصورة مباشرة في موضعين متتاليين من سورة الأعراف، ففي الآية 157: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)، وفي الآية 158: (فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
وجاءت الإشارة إلى أميته بصورة غير مباشرة في سورة الجمعة في الآية الثانية: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ).. ومن الواضح أن إطلاق هذه الصفة عليه صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى لا يهدف إلى الانتقاص من مقامه وشأنه، بل إما ذكرت ثناءً ومدحاً، وإما تمييزاً لغرض معين.. فما المراد إذاً من الأمية؟ ولماذا ذكرت كصفة لسيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
أمية القراءة والكتابة:
الرأي الأول يذهب إلى التمسك بالمعنى اللغوي الظاهر والمتبادر من الكلمة، جاء في لسان العرب: (قال الزجاج: الأُمِّيُّ الذي على خِلْقَة الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتاب فهو على جِبِلَّتِه، وفي التنزيل العزيز: ومنهم أُمِّيُّون لا يَعلَمون الكتابَ إلاّ أَمَانِيَّ؛ قال أَبو إسحق: معنى الأُمِّيّ المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه أي لا يَكتُبُ، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه أي على ما وَلَدَته أُمُّهُ عليه.. وقيل لسيدنا محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأُمِّي لأَن أُمَّة العرب لم تكن تَكْتُب ولا تَقْرَأ المَكْتُوبَ، وبَعَثَه الله رسولاً وهو لا يَكْتُب ولا يَقْرأُ من كِتاب، وكانت هذه الخَلَّة إحْدَى آياته المُعجِزة).
فالآيات ـ وفق هذا الرأي ـ تشير إلى عدم معرفة النبي بالقراءة والكتابة كما جاء في سورة العنكبوت: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ، وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)(العنكبوت:47-49)، لا انتقاصاً من شأن النبي، بل للتأكيد على عدة أمور:
1ـ سماوية القرآن الكريم المعجِز في بيانه ومضامينه ودقته، فكيف لرجل لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا القرآن، لولا أنه من عند الله؟ ولذا قال سبحانه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء:88).
2ـ سماوية القرآن الكريم من حيث دقة تكرار عرضه دون خطأ أو نقص أو زيادة، وهذا ما أشار إليه ابن منظور في لسان العرب حيث قال: (لأَنه صلى الله عليه وآله وسلم تَلا عليهم كِتابَ الله مَنْظُوماً، تارة بعد أُخْرَى، بالنَّظْم الذي أُنْزِل عليه فلم يُغَيِّره ولم يُبَدِّل أَلفاظَه، وكان الخطيبُ من العرب إذا ارْتَجَل خُطْبَةً ثم أَعادها زاد فيها ونَقَص، فحَفِظه الله عز وجل على نَبيِّه كما أَنْزلَه، وأَبانَهُ من سائر مَن بَعَثه إليهم بهذه الآية التي بايَنَ بَينه وبينهم بها).
3ـ الدلالة على صفة من صفاته المذكورة من قبل في كتب سماوية، كمزيد برهان ودليل على صحة نبوته، خاصة لأهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون بعثته وفق صفات معينة، ومن بينها كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهو ما أشارت إليه الآية 157 من سورة الأعراف: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)، وقد جاء في سفر التثنية الإصحاح 18 من التوراة: (أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ) أي مثل النبي موسى عليه السلام صاحب شريعة وهو من نسل إسماعيل أخي إسحق عليهما السلام (وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ) أي أن كلام الله يأتيه على فمه لا في اللوح والكتاب، على خلاف ما كان عليه موسى، لأنه أمّي.
وفي إنجيل يوحنا الإصحاح 16على لسان السيد المسيح عليه السلام: (إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ، وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ) أي أنه يتلقى الوحي سماعاً لا قراءةً.
أمة بلا حضارة:
الرأي الآخر القريب من الرأي الأول بنحوٍ ما هو الأمية الحضارية، وكأن الله تعالى يقول أنه بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع لم يكن يمتلك حضارة علمية وثقافية وتقنية وفلسفية على خلاف ما كانت عليه سائر الأمم من حوله كالفرس واليونان والرومان، وأنهم عايشوا النبي في طفولته وشبابه، وهم مدركون أنه لم يغادر هذا المجتمع الأمي حضارياً إلا في سفرة تجارية محدودة الزمن، فكيف له أن يأتي بكل هذه المعارف الكثيرة التي اختصت في جزء كثير منها بتجارب الأمم وتاريخها وخلاصات العبر المأخوذة منها، والحِكَم والأخلاقيات والآداب والتشريعات التي تنظم الحياة بالصورة المثلى، وتضع الحلول لكبريات المسائل المعضلة في الجوانب الإدارية والقضائية والاجتماعية والفكرية، علاوة على الإخبار بالغيبيات حول الملائكة والجن واليوم الاخر والحساب والجنة والنار، وغير ذلك مما حواه القرآن الكريم؟ إن كل هذا إنما يؤكد على سماوية القرآن الكريم، وأنه ليس من عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما حاول البعض أن يدّعي ذلك، وأكّد القرآن على بطلانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)(النحل:103).
أممية وليست أمية:
ذهب البعض إلى أن الأمية بمعنى عدم الانتماء إلى اليهود، فقد كان يطلق اليهود على مَن سواهم اسم (الأميون) كما في قوله تعالى حكايةً على لسان اليهود: (ليس علينا في الأميين سبيل) (آل عمران: 75). فكأن الله تعالى ـ وفق هذا الرأي ـ يستعمل نفس هذا المصطلح الدارج عند اليهود في بيان صفة النبي محمد تارة، بأنه ليس من أمة اليهود، ولبيان صفة المجتمع الذي ظهر فيه النبي محمد تارة أخرى، بأنه مجتمع غير يهودي.
قال العلامة الطباطبائي في تفسير سورة الجمعة رداً على هذا الرأي: (الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ و لا يكتب، و المراد بهم ـ كما قيل ـ العرب لقلة من كان منهم يقرأ و يكتب، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم، أي من جنسهم.. واحتُمِل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود.. وفيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية (يتلوا عليهم آياته) إلخ، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخص غير العرب وغير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يُلقِه إليهم).
مركزية أم القرى:
وقال آخرون بأن الأمية نسبة إلى أم القرى، وهي مكة العاصمة المقدسة عند العرب، وبالتالي جاء الوصف تارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أمي (أي من أم القرى) وبالتالي فهو مكّي، وتارة للمجتمع الذي بُعث فيه، وهو مجتمع أم القرى، أي مكة المكرمة.
وقد رد العلامة الطباطبائي في تفسيره هذا الاحتمال فقال: (واحتمل البعض أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى، وفيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير (يزكيهم و يعلمهم) راجعاً إلى المهاجرين ومن أسلم من أهل مكة بعد الفتح وأخلافهم وهو بعيد من مذاق القرآن).
ويضاف إلى ذلك أن هذا الرأي وما سبقه يُفسدان قيمة الاستدلال الوارد في سورة الأعراف على نبوته، وما تقيمه من دليل وحجة على أهل الكتاب بانطباق الصفات الواردة في التوراة والإنجيل عليه، أي كونه يتلقى الوحي لا بصورة مكتوبة، بل شفاهاً، وهو ما عبّر عنه القرآن: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)(الشعراء:193-194).
نفي المنقصة:
ولابد من التأكيد أخيراً أن أمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى عدم القراءة والكتابة ليست منقصة في حقه، فهي ليست عدم معرفة ناشئة من نقص فيه أو عجز وعدم قدرة ـ حاشاه ـ كيف وهو الذي عُرف بالعبقرية وبكمال العقل حتى اتُّهم بأنه هو واضع القرآن على عظمته، وإنما هي حكمة الله سبحانه التي شاءت أن تعزِّز من البرهان على سماوية القرآن من خلال أمية النبي، كي لا يكون لأحد مجال للتشكيك في ذلك، قال تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)(العنكبوت:48).. قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية: (والمعنى: وما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتاباً، ولا كان من عادتك أن تخط كتاباً وتكتبه ـ أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أمياً ـ و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل. لكن لمّا لم تحسن القراءة و الكتابة واستمرت على ذلك وعرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم ومعاشرتك معهم، لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى، وليس تلفيقاً لفّقته من كتب السابقين ونقلته من أقاصيصهم وغيرهم حتى يرتاب المبطلون و يعتذروا به).
ويأتي هذا تماماً كما شاءت حكمته سبحانه أن لا يُحسن النبي قول الشعر كما هو لازم قوله سبحانه: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (يس:69) وهو أفصح من نطق بالضاد، وكما شاءت حكمته سبحانه أن لا يقاتل النبي بسلاح لا في معركة ولا في غير ذلك، وهو الذي لا يدانيه أحد في الشجاعة، وما ذاك إلا كي لا يكون واتراً لأحد من العرب فيصعب عليهم قبول رسالته، وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107).
اللهم صل على محمد النبي الأمي الهادي المهدي، وعلى آله الطيبين، وعلى أصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.