وصدق جعفر الصادق - من كتاب الإمام جعفر الصادق للمستشار عبدالحليم الجندي


كان جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين شجرة باسقة، تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم، تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده.. وهو ـ بوجه خاص ـ حجر الزاوية من صرح (أهل البيت) ترنو إليه أبصار [العباسيين] الذين يدّعون الخلافة بدعوى أنهم من (أهل البيت). وهو مقيم في المدينة، العاصمة الأولى، والدائمة، للإسلام، يتحلق فيها المتفقهة، حول علماء الإسلام في مسجد الرسول، يحملون بأيديهم مصابيح السنة، أو يعلنون شرعية الحكومة أو عدمها، وحسن السيرة أو فسادها، وإقرار أهل العلم أو إنكارهم. وهي أمور أساسية، تحرص عليها الدولة العادلة، وتتجنب الاتهام بمخالفتها أي دولة.
وإذا كانت دمشق قد أدارت ظهرها لمدينة الرسول، أو كانت بغداد قد فتحت أبوابها على العالم، وأوصدتها دون أهل المدينة، فالمسلمون يأتون إلى مدينة الرسول كل عام، خفافاً وعلى كل ضامر، إذ يحجون إلى البيت العتيق بمكة، ويزورون قبر الرسول ويشهدون آثاره في المدينة. وإذا كان الخليفة المنصور يقول عن نفسه: (إنما أنا سلطان الله في الأرض) فهو يحس وطأة (سلطان الدين والعلم) في المدينة، حيث إمام المسلمين غير منازع (جعفر بن محمد) الذي يصفه الناس، وأبوجعفر المنصور في طليعتهم، (بالصادق).
وفي سنة 147 عزم المنصور وهو راجع من موسم الحج أن يسير الإمام الصادق من المدينة إلى العراق فاستعفاه الإمام فلم يعفه وحمله معه، ولكن الصادق كان يُقبِل عليه بمقدار، فليست دنيا أبى جعفر لتجدر بالمقاربة.. وفي ذات يوم أرسل إلى الصادق: لماذا لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه: ما عندنا ما نخافك عليه ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها، ولا نعدها نقمة فنعزيك عليها، فلم نغشاك؟
ويجيب أبو جعفر: تصحبنا لتنصحنا. ويجيب الإمام: من أراد الدنيا فلا ينصحك، ومن أراد الآخرة فلا يصحبك.
فالذي يريد الدنيا يسير في ركب صاحبها فلا يقول كلمة لله، والذي يريد الآخرة يعتزل مجالس رجل يعجزه عمله ويعميه أمله عن طريق الآخرة.. وصدق جعفر الصادق.