خطبة الجمعة 13 ربيع الأول 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الإسلام والعنف الروحي


(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)(الفتح:29)
ـ الإيمان لا يعني النفور من الناس ممن لا يشتركون معي في القناعات الإيمانية، كما لا يعني أن أحمل حقداً في قلبي تجاه الآخرين الذين يختلفون معي.. بل الإيمان يعني أن أعيش الإحساس بالمسئولية تجاههم، وأن أعيش الرغبة الصادقة في أن ينالهم من الخير ما وُفِّقتُ له، وأن تغمر قلبي المحبة الإنسانية الفطرية التي تمكّنني من أن أتعايش معهم بصورة تلقائية طبيعية، لأن القلب الذي لا يحب لا يستطيع أن يهدي الآخرين، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع): (هل الدين الإ الحب؟).
ـ روى الكليني عن مصادف قال: (كنت مع أبي عبد الله(ع) بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه فقال: مِل بنا إلى هذا الرجل فإني أخاف أن يكون قد أصابه عطش، فملنا فإذا رجل من الفراسين) لقب قبيلة معروفة بالنصرانية (طويل الشعر فسأله: أعطشان أنت؟ فقال: نعم. فقال لي: انزل يا مصادف فاسقه فنزلت وسقيته، ثم ركبت وسرنا فقلت: هذا نصراني، فتتصدق على نصراني؟ فقال: نعم إذا كانوا في مثل هذا الحال).
ـ هكذا استطاع النبي(ص) من قبل أن يهدي المشركين وغيرهم إلى الإسلام، ولو كان فظاً غليظ القلب لما تحقق ما تحقق والله يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107) ولم يقل للمؤمنين خاصة.
ـ ولكن قد يستغرق البعض في تدينهم، وتأخذهم الحماسة الإيمانية، وتتغلب عندهم العاطفة على العقل، ليتحول مَن يكون في الجهة المقابلة من الإيمان شيطاناً لابد من الاحتراس منه، وعدواً لابد من محاربته، متصورين أن هذا نوع من التعبير عن الإخلاص لله والذوبان في محبته والاندكاك في العقيدة.
ـ ولربما يترجم هذه الفكرة الخاطئة إلى سلوك عنيف، يرجع عليه وعلى متبناه وعلى الآخرين بالضرر.
ـ كما قد يبرر البعض مثل هذا العنف الروحي ـ ولربما السلوكي تبعاً ـ باعتباره تمسكاً بقوله تعالى: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) في غفلة عن أن الآية إنما تتحدث عن طبيعة علاقة المؤمنين بالكافرين في أجواء الصراع، لا في أجواء التعايش السلمي.
ـ وعادةً ما لا تقف المسألة لدى هؤلاء عند هذا الحد، بل تتعداه لتتوجه نحو العناوين الاجتهادية الصغيرة في العقيدة ـ بين أتباع المعتقد الواحد ـ أو في المسائل الفقهية الاجتهادية، والتي لربما يصعب لأحد الجزم بصحة الفكرة فيها، أو استنادها على دليل قاطع ينفي أي شك أو شبهة عنها.
ـ ومن الطريف المبكي ما اطلعت عليه من قائمة طويلة أعدّت لجمع موارد تكفير إحدى الطوائف الإسلامية لغيرها، ومما جاء فيها أنه لو قبل أحدٌ دعوتهم وانتمى لطائفتهم ولكنه ادعى أن آباءه ماتوا على الإسلام، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقُه وصار مالُه فيئاً للمسلمين. ومن قال من المسلمين لا إله إلا الله حال الحرب معهم فإنه يُقتل، لأن صاحب أسامة بن زيد لم يقلها قبل ذلك، وهم يقولونها قبل ذلك. يقول معد هذه القائمة: ولهذا لجأ بعض حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا يتعرضون إلى غاراتهم إلى ادعاء الكفر وأنهم يريدون أن يسلموا على أيديهم ليحقنوا بذلك دماءهم ويكملوا الطريق لأداء المناسك!
ـ في الكافي عن هاشم صاحب البريد قال: (كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبوالخطاب مجتمعين فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر، فقال أبوالخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو كافر، فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله ماله إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟! ليس بكافر إذا لم يجحد) ويستمر النص في وصف لقائهم بالإمام الصادق(ع) في موسم الحج وسؤالهم له عن ذات الأمر، فقال(ع): (ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم أليس يشهدون أن لاإله إلا الله؟ قلت: بلى، قال: أليس يشهدون أن محمدا رسول الله(ص)؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هم عندكم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. قال: سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ اليس يشهدون أن لاإله إلاالله وأن محمدا رسول الله قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فماهم عندكم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. قال: سبحان الله أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلقهم بأستار الكعبة؟ قلت: بلى، قال: أليس يشهدون أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله(ص) ويصلون ويصومون ويحجون؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه، قلت: لا قال: فما تقولون فيهم؟ قلت: من لم يعرف فهو كافر. قال: سبحان الله هذا قول الخوارج، ثم قال: إن شئتم أخبرتكم، فقلت أنا: لا، فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشئ ما لم تسمعوه منا، قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم).
ـ الخطورة الكبرى تتمثل في أن هذا العنف الروحي ـ ولربما السلوكي ـ يُستغل من قبل بعض القيادات الدينية والسياسية والحزبية في تسخير الشباب الذين يكونون هم غالباً وقود الصراعات.
ـ والخطورة الأخرى تتمثل في التلاعب بالمبادئ الإسلامية من خلال تحريف الكلم عن مواضعه، وتأويل النصوص لتتماشى مع الروحية الانفعالية.. فالغاية بالنسبة إليهم تبرر الوسيلة غير الشرعية.
ـ ويأتي أحياناً الموروث التاريخي ليزيد من الاحتقان المتراكم، وليتحول الالتزام الديني المنطلق من الجهل والتخلف والتعصب إلى خطر على الإيمان نفسه وعلى المؤمنين جميعاً.
ـ إن تجاوز هذه الحالة من العنف الروحي تحتاج إلى حركة من المؤمنين الواعين الذين يملكون قوة العقل ومسئولية الإيمان ورسالية الدين وموضوعية الحجة وعمق البرهان بهدف إعادة النظر في طريقة إثارة الإحساس الديني في مشاعر المؤمنين، وفي تقديم المفردات العقدية والفقهية والتاريخية، حتى يمكن للتربية الدينية الحكيمة في الشكل والأسلوب والمضمون أن تمنح الواقع الديني والمذهبي المتعدد نوعاً من التوازن والموضوعية، بحيث تتحول الأجواء الفكرية بين هذا الفريق أو ذاك إلى حركة بحث عن الحقيقة على أساس الاستماع إلى الآخر الذي قد يكون له بعض الحق في قناعات فكره، لا على أساس تأجيج الصراعات وتسجيل النقاط على الخصوم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).