صراع الغرائز - الشيخ علي حسن

عندما يفقد الإنسان قوّتي العقل والعاطفة في مواجهة أهوائه الجارفة فيستسلم لها ، فإنه يعيش حالة من القلق والصراع النفسي والارتباك وفقدان التوازن الروحي بصورة عنيفة، ومردّ ذلك أحياناً إلى حالة التنازع بين الأهواء المتعددة والمتخالفة، وكل هوى من هذه الأهواء الكثيرة في النفس يتطلب الاستجابة والإشباع. ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
الانتقام وحب الجاه:
قد يقع الإنسان فريسة بين غريزة الانتقام والغضب من جهة، وغريزة حب الحياة والجاه والسلطان من جهة أخرى، فيتطلب منه حب السلطان والجاه: المداراة والرفق بالمعارضين، وتدفعه غريزة الانتقام والغضب إلى الفتك بأعدائه المعارضين له.. الأمر الذي يجعله يعيش صراعاً نفسياً قد يصبح عنيفاً تبعاً لدائرة السلطة وحجمها. مع العلم أن الرفق والمداراة هنا ليست من الحلم الممدوح والذي يُعدّ من جنود العقل وأدواته التي ترتقي بالسلوك الإنساني، وإنما هو من إيثار هوى على هوى.
لياقات اجتماعية:
وقد يقع التضارب بين غريزة حب الجاه والسلطان الذي يتطلب مستوى معيناً من الآداب الاجتماعية، وبين سائر الغرائز التي ترفض هذه الآداب الاجتماعية كالغريزة الجنسية مثلاً، علماً بأن ضبط الغريزة الجنسية والتحكم بها مراعاةً لهذه الاعتبارات الاجتماعية ليست من العِفّة في شئ، وإنما هي إيثار هوى على هوى آخر.. كما أنه يتفق كثيراً أن تتغلب غريزة الجنس على غريزة حب الجاه، فتصبح الأولى مصدراً للفضائح الجنسية التي يتعرض لها بعض الشخصيات العامة بين حين وآخر.
الخوف على النفس:
وقد يقع الإنسان فريسة للصراع بين غريزة حب الجاه والسلطان وبين غريزة الخوف على النفس.. فتتطلب الغريزة الأولى الهجوم والفتك والمجازفة، بينما تتطلب الغريزة الثانية التريث والتحفظ والأخذ بالاحتياط. وهنا أيضاً لو اختار الإنسان الذي يعيش هذا الصراع الخيار الثاني، فإنه لن يكون أمراً إيجابياً في ذاته، وإن احتملنا أن تكون نتائجه الآنية إيجابية، لأن الدافع للتريث والتحفظ ناشئ من الخوف على النفس، لا من تفضيل الاحتياط في شأن إراقة الدماء وأمثال ذلك.
هذه بعض الأمثلة على صراع الأهواء والغرائز داخل النفس، والتضارب والصراع من هذا القبيل أمر شائع في حياة الإنسان. يقول الله سبحانه وتعالى (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55).
عذاب آخر:
يلقى الإنسان الذي يُسلم نفسه لأهوائه لوناً آخر من ألوان المعاناة، ففي كل هوى من الأهواء عذاب يخصّه، وإن شعر الإنسان بنوع من اللذة الآنية. فكيف يكون حال من يريد أن يبني بيتاً ولكنه يريده بيتاً متميزاً على سائر البيوت، متفوقاً في تصميمه ومواد بنائه وتأثيثه وألوانه و.. و.. و.. إلخ القائمة التي كأنها لا نهاية لها.. تخيّل حال هذا الإنسان الذي يبقى يبحث ويقارن ويبني فيهدم، ويتقدم خطوة ثم يتراجع عشراً، ويتكلف أموالاً يتألم على إنفاقها، حتى إذا انتهى بعد سنوات وسنوات من مشروعه هذا وشعر بلذة ما، تجده يعيش هاجس المقارنة والخوف من أن يتفوق عليه أحد في ما أنجز، ثم يتحول إنجازه بمرور الأيام إلى وجود عادي يملّه فيبدأ يدخل في دوامة جديدة من التفكير والمعاناة النفسية في كيفية الخروج من هذا الوضع.
ولعل إلى هذه الحالة من المعاناة أشار الإمام علي عليه السلام حيث قال: (ما أعجب أمر الإنسان: إن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن سعد نسي التحفظ، وإن ناله خوف حيّره التحفظ، وإن اتسع له الأمن أسلمته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شمله البلاء، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة. فكل تقصير به مُضِر، وكل إفراط به مفسد، وكل خير معه شر، وكل شر له آفة). فلاحظ كل هذه الآلام النفسية التي تجعل الإنسان يعاني ويعاني:
ـ يستسلم لهوى القوة والاعتلاء على الآخرين، فيعاني من كثرة الشكوك فيما وفيمن حوله..
ـ ويستستلم لهوى حب الذات المفرط، فيعاني من مقارنة أوضاعه بأوضاع الآخرين الذين يفوقونه مالاً أو جمالاً أو شهرة..
ـ ويقبل إقبالاً شديداً على الدنيا، فيتألم من شدة الحسرة على ما ضاع من بين يديه أو خوفاً من فقدان ما يملك..
ـ ويعيش اللذات ويركن إلى النعمة ويغفل عن واقع الحياة، فيبتلى بالمبالغة في الحزن عند المصائب.. وغير ذلك من المعادلات النفسية..
فهل يمكن أن نتصور أن إنساناً يعيش كل أو بعض هذه الآلام هو إنسان سعيد؟ عن علي عليه السلام: (عباد الله، إن مِن أحبِّ عبادِ الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه.. قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى).